عقدة تعز قبل الهدنة وبعدها: مدينة تنهض من الركام تعز

- ‎فيكتابات
تنفض تعز ركام الدمار عنها ببطء (العربي الجديد)
لم تكد تمضي دقائق على دخول وقف إطلاق النار ليل الأحد – الإثنين حيز التنفيذ حتى بدأت ترد معلومات عن خروق عدة بدا أن أغلبها يتركز في محافظة تعز، إذ تم تسجيل 12 خرقاً في الساعة الأولى للهدنة، واستمرت الخروقات بعد ذلك من خلال إطلاق قذائف استهدفت مواقع الجيش و”المقاومة الشعبية”، قبل أن ينفذ التحالف العربي ثلاث غارات جوية في شرق المدينة، تكريساً لآلية وقف إطلاق النار التي تتيح الرد على أي خرق.
تركز الخروق في أول أيام الهدنة في تعز لا يبدو مستغرباً بعدما أثبتت المدينة على مدى أشهر الحرب الطويلة أنها أبرز محافظة يمنية، شكّلت استعصاء على مليشيات الحوثيين والرئيس المخلوع علي عبد الله صالح، بعدما رفضت أن تسلّم بانقلاب الحوثيين وصالح، ما عرّضها لحملة عسكرية تعد الأشرس لم توفر مدنييها الذين تحولوا تباعاً إلى هدف يومي للمليشيات عبر عمليات قصف عشوائية حولت تعز تباعاً إلى مدينة من ركام قبل أن تعود للانبعاث من جديد بعد التمكن من كسر الحصار جزئياً عنها للمرة الأولى في 10 مارس/آذار الماضي قبل أن تعاود المليشيات فرضه بعد ذلك بأيام.

مظاهر الدمار

يقول كثر ممن يعرفون المدينة، التي يحتضنها جبل صبر، إنّ لتعز قدرة عجيبة على النهوض من بين الركام، وهو ما تجلى في تفاصيل الشهر الماضي. قبل كسر الحصار الجزئي مطلع شهر مارس/آذار، كانت تفاصيل المشهد اليومي في تعز، ثالث أكبر المدن اليمنية، ثابتة تلخّص صور الدمار الذي ينتشر في معظم مناطق المدينة التي لم يعد من أثر للحياة فيها بعدما كانت حتى وقت قريب مشتعلة وصاخبة. شوارع خالية وشبه خالية، وأحياء كاملة دُمرت، مبانٍ مهدمة وأثاث منزلي ملقى في الشارع واختلط بأثار الدمار فتحول إلى قطع من الخردة المحروقة.
ولا تزال الكتل الخرسانية التي تشبه الجدران العازلة تثير الانتباه حتى اليوم في معظم شوارع المدينة. وعند التجول في مناطق شرق المدينة، تبدو مظاهر الدمار الذي حلّ بها واضحة جراء المعارك العنيفة والقصف المتعمد من قبل مليشيات الحوثيين والرئيس المخلوع حيث يمكن رؤية المنازل التي أصبحت أثراً بعد عين. أما تلك التي لم تطاولها قذائف المليشيات، أو غارات طيران التحالف، فلم تسلم أبوابها ونوافذها جراء ضغط الانفجارات في المناطق المجاورة لها.
في شارع المرور غرب المدينة، فقدت جميع المحلات التجارية، والمرافق الحكومية، والمنازل، الأبواب أو النوافذ بسبب طائرات التحالف التي نفذت غارات عدة واستهدفت تجمعات الحوثيين المتواجدين في عدد من مؤسسات الدولة في تلك المناطق، فيما فقدت مساكن المواطنين بحي المناخ في نفس المنطقة الغربية ملامحها نتيجة “قصف الحوثيين كل منزل بدون استثناء”، كما يقول أحمد الجلال، وهو أحد المواطنين في المنطقة.
المشهد نفسه يتكرر في الجهة الشرقية من المدينة، حيث لا يوجد منزل واحد لم يصب الدمار إحدى واجهاته على الأقل. “لم يتبق من المطعم سوى قطع الخردة وصفائح الحديد المحروق وحوض الكباب، ولم يعد بمقدوري إعادة ما دمرته الحرب، التي أخذت منا كل شيء”، هكذا يتحدث عبد علي، بائع الكباب الأشهر في تعز، الذي كان يملك مطعماً صغيراً يقدم وجبة الصبوح بصنف واحد من الأطعمة (الكباب البلدي)، ويتواجد في منطقة الحوض في الجهة الشرقية من المدينة، والتي شهدت أشرس المواجهات وكان نصيبها من قذائف الحوثيين أكبر. وعلى غرار بائع الكباب فقد كثيرون مصادر أعمالهم في تعز بعدما طاول الدمار نسبة كبيرة من المدينة.
يقول المحامي توفيق الشعبي، نائب نقيب المحامين المدنيين في تعز، في حديث لـ”العربي الجديد”، إن “المساحة التي تعرضت للدمار والخراب تقدر بحوالي 70 في المئة من مديريتين هما (القاهرة، والمظفر) ويشكل إطارهما الجغرافي ما يسمى بالمدينة). ويوضح أن “40 في المئة تعرض لدمار كلي خصوصاً القسم الغربي والشرقي المحاذي، والذي تركزت فيه معارك عنيفة”. ويضيف الشعبي “30 في المئة تعرض لدمار جزئي تركز في الجهة الجنوبية وبقيت الجهة الشمالية الغربية أقل ضرراً”. وتحولت معظم مناطق مدينة تعز إلى مدينة أشباح، فحطام المباني والأنقاض والقذائف الفارغة هي حالياً كل ما تمتلكه تلك المدينة.
فالمدينة الأكثر ازدحاماً بين المدن اليمنية، والتي تحوي تجمعاً سكانياً هائلاً “محشوراً داخل علبة كبريت” وأحياء قديمة جديدة متلاصقة، شهدت موجة نزوح كبيرة عندما اندلعت الحرب فيها في ابريل/نيسان من العام 2015، لأن سقوط قذيفة واحدة كان كفيلاً بإحداث خراب ودمار في حي كامل. حتى أولئك الذين وقف الحظ في صفهم ووجدوا أنفسهم في البداية في مناطق وأحياء لا تصلها مخاطر الحرب، فقد نزحوا تباعاً بسبب الحصار الذي جعل كل قاطني المدينة يعانون من أجل الحصول على أبسط الاحتياجات؛ ماء للشرب، وغاز للطبخ، وبعض الخضروات، وحتى الطماطم كانت سلعة يعجز المواطن عن شرائها نظراً لارتفاع سعرها. وتشير بعض التقديرات إلى أن قرابة ثلثي سكان المدينة نزحوا إلى مدن أخرى وازدحمت بهم الأرياف.
إلا أن هناك من فضّل البقاء وسط هذا الجحيم، بسبب تقطّع السبل به خارج المدينة، وأحياناً كثيرة بسبب العناد في بداية الأمر ثم الاعتياد بعد ذلك. وأصبح دمار المدينة ينعكس في وهن وشحوب ملامح هؤلاء الذين يتصادف تواجدهم في بعض الأماكن وهم يكابدون يومياً لمحاولة الاستمرار في الحياة بعدما حرموا من أغلب مقومات الحياة.

على مدى أشهر أغلقت الأفران بسبب عدم توفر الدقيق والمشتقات النفطية. وما تبقى من أفران تعمل، كانت الطوابير ترتص أمامها كثعبان طويل في انتظار الحصول على بضعة أرغفة خبز. طوابير أخرى كانت تتشكل أمام البقالات من أجل الحصول على بضع لترات من مياه الشرب بعدما أصبح لمياه الشرب سوق سوداء في تعز. كل هذه التفاصيل وأكثر من مآسي الحرب، بدأت المدينة تتخلص منها تدريجياً بعدما شكّل كسر الحصار جزئياً نقطة تحول، إذ تحاول تعز منذ ذلك الحين أن تنبعث من بين ركام الحرب، لتبدأ موجة عودة النازحين الى المدينة، على الرغم من عودة الحصار ومن أنّ مخاطر الحرب لا تزال محدقة.

بين الحياة والموت

عند المنفذ الغربي في منطقة حبيل سلمان الذي يمثل نقطة فاصلة بين مناطق سيطرة الجيش الوطني وسيطرة المليشيات على خط جامعة تعز، كانت المليشيات حتى 10 مارس/آذار تنصب حواجز الإسمنت وتمنع المواطنين من التنقل بين مناطق داخل وخارج الحصار.

وكان مرور المواطن من المنطقة يعني أنه بين فرصتي الحياة أو الموت. وإن لم يحالف الحظ المواطن الجائع داخل مناطق الحصار بالعبور من أجل شراء أشيائه من المناطق الواقعة خارج طوق الحصار عليها يتذلل للمليشيات أو المحاولة في وقت آخر. لكن فور كسر الحصار بدأت تتزاحم باصات النقل والشاحنات المحملة بالبضائع دون حواجز.
يقول عبدالرحمن، بائع يعمل في البقالة القريبة من نقطة المعبر، إنه “يومياً كان يسقط بمعدل اثنين إلى ثلاثة ضحايا بين القتل أو الإصابة في هذا المعبر، وحدث أن طفلاً قتل في هذا المعبر أمام والدته”. يستذكر مواطن آخر تعامل المليشيات مع العابرين بقوله إن “الثامنة صباحاً والثالثة بعد الظهر (كل يوم سبت) تعد أكثر الأوقات أماناً للعبور، وهي الأوقات التي كانت المليشيات تسمح فيها للمواطنين بدخول المدينة، أما اليوم أصبح المرور بدون موعد”، لينتقل الحصار إلى مناطق أخرى وأصبح معبر حذران غرب المدينة، هو المنطقة الفاصلة بين الحياةِ والموت، وذلك بعدما تمكنت قوات الجيش و”المقاومة” في 10 مارس الماضي من تحرير منطقة حبيل سلمان وبئر باشا وموقع اللواء 3 مدرع، غرب المدينة.

الأسواق تستعيد حياتها

ومنذ كسر الحصار جزئياً، أصبحت المواد الغذائية تتدفق إلى أسواق الأحياء وفتحت المتاجر التي كانت مغلقة أبوابها من جديد عبر مناطق وطرقات وعرة من جبل صبر، جنوب المدينة. سوق الخضروات في منطقة المركزي، وهو مخصص لبيع الخضروات واللحوم وسط المدينة، عاد للعمل مجدداً. تحدث أحد بائعي الخضروات في السوق لـ”العربي الجديد”، قائلاً “توقفنا لفترة طويلة عن العمل لعدم وجود الخضار، على الرغم من أنه قبل كسر الحصار بحوالي شهر سمح الانقلابيون بإدخال الخضار بكميات قليلة إلى السوق لكن الأسعار كانت مرتفعة أضعافاً، وبعد كسر الحصار ارتفعت الكميات المتدفقة بشكل واضح فأصبحت متوافرة بما يكفي السكان”. ويضيف “بعدما كان منظر الفواكه أو الخضروات غائباً بشكل عام عن السوق أصبح منظراً معتاداً حيث تكتظ الآن الأسواق بالمشترين وهناك حركة واضحة في السوق”.
الوضع في سوق الصميل (وهو سوق شعبي) يبدو مشابهاً. وعلى الرغم من الخراب والدمار الذي طاول أغلب الأحياء المحيطة به، عادت بائعاتُ الملوجُ (نوع من فطائر الخبز اليمني)، للمرابطة بنفسِ الملابسِ القديمةِ، والبهجة المعهودة عادت معهن أيضاً.

أماكن لم تعد كالسابق

ووسط محاولات استعادة الحياة، تبدو شواهد الدمار الذي طاول المدينة كثيرة، وخصوصاً أنه لم يستثن أبرز معالمها. في جامعة تعز، غرب المدينة، هناك بعض مباني الكليات لا تزال تحاول الإشارة إلى وجودها بأناقتها المخدوشة بالحرب، فيما تعرضت خزانات الأرشيف ووثائق الطلاب وبعض معاملها إلى تفجير متعمد من قبل المليشيات التي غادرتها وتركت صواريخ محرمة دولياً، بحسب ما أفاد الجيش الوطني. كما حولت المليشيات مبنى كلية التربية وحديقتها الخلفية إلى مصنع محلي للمتفجرات.

 

المليشيات تهين التاريخ

قبل أكثر من نصف قرن، عندما كانت تعز لا تزال ترزح تحت قبضة الحكم الإمامي، يومها زارها شاب يدعى عبدالعزيز المقالح، سيصبح في ما بعد شاعر اليمن الكبير. كتب المقالح مشيراً إلى قلعة القاهرة قائلاً “هنا يختبئ الفجر القادم، اطمئن وانفض عن رأسك كل طيور الخوف. من هنا، غداً يصيح ديك الفجر، ويسكن الأمان مملكة القشعريرة والدم”. في ذلك الوقت المبكر لم يغفل المقالح ما أصبح يشكل هوية تعز الحقيقية. إنها أرض الثورة والتضحيات، بحسب توصيفه. وهي أيضاً مدينة لا تحتكر الربيع لأطفالها وحدهم ولديها ذاكرة لا تنطفئ.
يتحدث تاريخ قلعة القاهرة، وهي من المعالم التاريخية التي تُعرف بها تعز، بأنها كانت الحصن المنيع للطغاة الذين يحرصون على الاستعداد الكافي لقهر سكان المدينة، كما فعلت مليشيات الحوثيين وصالح عندما دخلت تعز. طوال أشهر كانت المعدات العسكرية الثقيلة تعتلي تلك القلعة ومن هناك تقصف معظم الأحياء السكنية. استُهدفت القلعة من الطيران وتضرر الكثير من معالمها، وبعد خروج المليشيات منها عادت لتقصفها من أماكن بعيدة. وقد شكلت استعادة قلعة القاهرة في أغسطس/آب من العام الماضي التحول الأبرز تمهيداً لاستعادة المدينة. لكن قلعة القاهرة لم تكن المتضررة الوحيدة بعدما حملت الحرب في دلالاتها العميقة معنى الخراب لكل ما يشكل الهوية التاريخية والثقافية. فقد أحرق أيضاً المتحف الوحيد في تعز. كذلك أحرقت أكبر مؤسسة ثقافية في اليمن (مؤسسة السعيد)، وسط المدينة.