ما الذي يحدث في اليمن؟ وما السبيل لبناء سلام مستدام فيها؟ إذا نجحنا في توصيف المشكلة فلن نفشل في اقتراح الحلول.
لا شك أن العالم يتذكر كيف قام اليمنيون بثورة سلمية عظيمة في 2011، اتسمت بالسلمية وبمشاركة واسعة من النساء والطلاب، وقد أفرزت هذه الثورة السلمية الخالصة، عملية انتقال سياسي سلمي أيضاً، بدأت برئيس انتقالي تم التوافق والاستفتاء عليه، وحكومة توافقية شارك فيها الجميع.
لاحقاً وبعد أشهر من بداية العملية الانتقالية، ذهبت جميع الأطراف إلى حوار وطني شامل، نوقشت فيه كل القضايا والمشكلات العالقة باستفاضة ومسؤولية. وبعد حوار استمر عاماً كاملاً، خرجنا بنتائج ومقترحات وتصورات توافق عليها الجميع، بناء عليها تم صياغة مسودة دستور، حدث كل ذلك خلال عامين من بدء العملية الانتقالية.
قبل الذهاب للاستفتاء على مسودة الدستور بأسابيع كما كان مقرراً، وإجراء الانتخابات المختلفة بناء على الدستور الجديد، تمت الإطاحة بكل شيء، فقد اجتاحت ميليشيا الحوثي المسلحة -بدعم من النظام الإيراني ومساندة لا محدودة من قوات المخلوع علي صالح- العاصمة صنعاء، وطردوا الرئيس عبد ربه منصور هادي والحكومة التوافقية، وذهبوا جنوباً وشرقاً وغرباً لاجتياح بقية المحافظات، احتلوا ودمروا المدن، قتلوا وخطفوا وأخفوا قسريا عشرات الآلاف من المدنيين والسياسيين والناشطين.. أغلقوا وصادروا وسائل الإعلام ومقرات الأحزاب، وسحبوا تراخيص منظمات المجتمع المدني، وأغلقوا مقراتها، وعطلوا معيشة اليمنيين، وزادوا من جوعهم ومعاناتهم!
وعلى إثر ذلك، أصدر مجلس الأمن الدولي قرارين، نصّا في بنودهما وبوضوح على رفض الإجراءات الانقلابية، ومطالبة ميليشيا الحوثي بالانسحاب من المدن، وتسليم الأسلحة، والكف عن استخدام القوة، والتخلي عن الاستيلاء على مؤسسات الدولة، وطالبت القرارات الدولية الميليشيا بالقيام بكل ذلك بصورة فورية، وتوعدتها بإجراءات وفق البند السابع في حال عدم الاستجابة.
لم يحدث ذلك التقويض فجأة.. ولم يحدث دون مقدمات، فخلال عامين تعرضت العملية الانتقالية لتخريب ممنهج وإعاقة مدروسة، كانت ميليشيا الحوثي تشارك في الحوار الوطني بالتوازي مع قضمها الأرض بالقوة، قطعة بعد قطعة، والاستيلاء على أسلحة الدولة، ومراكمة قوتها عبر استقبال العديد من سفن الأسلحة الإيرانية، والتي وقع بعضها بيد السلطة الانتقالية، وحين الجرد كانت الفاجعة كبيرة، ما تحوي تلك السفن من أسلحة مهولة جداً لا تملك مثيلاتها الدولة اليمنية، أما الرئيس المخلوع علي صالح، فقد كان يعمل دون كلل أو ملل في إعاقة وعرقلة العملية الانتقالية بأساليب شتى.
أخطاء كثيرة وقصور كبير ساعدا المخلوع علي صالح في نجاح مهمته التدميرية، أولها الحصانة الممنوحة له، وبقاؤه رئيساً لحزب يمتلك نصف المقاعد الحكومية، وبالإضافة إلى ذلك، فقد استثمر عشرات المليارات من الدولارات التي استولى عليها خلال عقودٍ؛ لتمويل عمليات تخريب وتقويض العملية الانتقالية.
أثناء ذلك، صدرت العديد من القرارات الدولية تدين المخلوع وتحذره من المضي في تقويض العملية الانتقالية وإعاقتها، وقد تضمنت هذه القرارات النص على حجز أرصدته ومنعه من السفر، وتوعدته باتخاذ إجراءات أشد إن استمر في إعاقة العملية الانتقالية، لكن كل ذلك لم يحُل بينه وبين مضيه في تدمير عملية انتقال السلطة في اليمن حتى يعود للحكم مجدداً، ولم يكن هذا ليحصل، أو يوافق عليه القسم الأكبر من اليمنيين.
من الأخطاء الفادحة أيضاً التي عقدت كثيراً من المشهد، استمرار سيطرة المخلوع على الجيش سيطرة كاملة، فقد ظلت ألوية الحيش التي بناها بعناية تدين بالولاء له ولعائلته، تحت قيادة نجله وأبناء أخيه وإخوانه خلال الفترة الانتقالية، وعوضاً عن قيامها بواجبها -كما يفترض- في حماية العملية الانتقالية من التقويض ومن العرقلة والإعاقة، كانت تغض الطرف عن العصابات التي تدمر الخدمات الأساسية وتعتدي على خطوط الكهرباء وأنابيب الطاقة، في الوقت الذي تفسح الطريق أمام الميليشيا لتستولي على الأرض وتستولي على أسلحة الجيش لواء بعد لواء ودون عناء يذكر.
وحين حاصرت جحافل الميليشيا الرئيس الشرعي عبد ربه منصور هادي في بيته بالعاصمة صنعاء، في نهاية المطاف لم نسمع أن ضابطاً واحداً اعترض على الميليشيا وذهب ليقوم بواجبه في حماية الرئيس وقبله في حماية مؤسسات الدولة، لقد تمت عملية الاستيلاء على مؤسسات الدولة بالقوة، وإسقاط العملية الانتقالية بمباركة تامة من الجيش الموالي للمخلوع.
بقاء سيطرة المخلوع وعائلته على الجيش كان ينطوي على مخاطر عظيمة، ما كان يجدر أن تغيب عن رعاة العملية الانتقالية، كان يفترض بهم منذ اللحظة الأولى لتولي الرئيس الانتقالي السلطة، أن يعملوا على نقل قيادة المؤسسات الأمنية والعسكرية والمدنية للسلطة الانتقالية التي تولوا رعايتها، كان ذلك إجراءً بالغ الأهمية نصت عليه اتفاقية نقل السلطة، وكان سوف يمنع انزلاق الأمور إلى الفوضى والحرب.
تم منح علي صالح حصانة من المساءلة عن جرائمه خلال فترة حكمه، ربما أراد الرعاة بذلك أن تكون الحصانة مقابل تخليه عن العمل السياسي، في النهاية حصل على الحصانة ولم نحصل على المقابل. كانت الحصانة محل رفض شباب الثورة ونشطاء المجتمع المدني، كنا نعلم أن من يضحي بالعدالة من أجل السلام يخسرهما معاً.
بعد إفلات الرئيس الشرعي من الإقامة الجبرية التي تم فرضها عليه، وتوجهه إلى عدن جنوب البلاد لممارسة مهامه وصلاحياته الدستورية، قررت ميليشيا الحوثي والمخلوع ملاحقته وقتله، وهو الأمر الذي جعله يهرب إلى العاصمة السعودية الرياض، ما حدث لاحقاً كان تدخلاً خارجياً من قبل التحالف العربي والمسنود ضمنياً بقرار مجلس الأمن، ومقاومة شعبية امتدت في معظم المحافظات، لم يكن ليقبل أحد بتقويض العملية السياسية، وبتحول اليمن إلى ولاية إيرانية.
منذ الأيام الأولى لاقتحام العاصمة أطاحت الميليشيا بكافة المكتسبات التي حققتها ثورة 11 فبراير السلمية، حين جلبت حرية صحافة وتعبير تكاد تكون مطلقة، وحرية مطلقة في التظاهر والاجتماع والتنظيم، وحرية مطلقة لعمل منظمات المجتمع المدني، وحرية امتلاك وسائل الإعلام المقروءة والمسموعة والمرئية دون قيود للأفراد والمنظمات والأحزاب، كل ذلك الهامش الواسع الذي عاشته اليمن بعد الثورة خلال عامين من العملية الانتقالية، وحتى يوم اجتياح صنعاء، تم الإطاحة به تماماً.
بعد عام من الحرب التي أكلت كل شيء تقريباً، هناك فرصة لعملية سلام في الكويت بعد أيام، إذا توفرت الجدية وكان هناك استعداد حقيقي للتخلي عن الإجراءات الانقلابية.
يمكن لمفاوضات الكويت أن تفضي إلى عملية سلام مستدامة في اليمن، ويمكن لها أن تفضي إلى هدنة زائفة تراكم أسباب الصراع، بالإمكان صناعة عملية سلام صلبة أو بالإمكان أن تكون هدنة مؤقتة عبارة عن استراحة محاربين ليعودوا إلى قتال أشد.
إن على أي خارطة طريق أو مبادرة أو مقترحات تقدم لحلاً لنزاع في اليمن، أن تجعل غايتها الاستراتيجية إقامة دولة تكون صاحبة الحق الحصري في امتلاك السلاح، وتحتكر الحق في السيطرة والسيادة على جميع المناطق.
إن هذا يستدعي قيام أحزاب سياسية دون سلاح، وحياة سياسية دون ميليشيا، ومواطنين يتمتعون بحرياتهم وحقوقهم الأساسية، هذا جوهر ما توافق عليه اليمنيون في الحوار الوطني، وقبل ذلك تضمنته اتفاقية نقل السلطة في اليمن، كما أكدت عليه قرارات الشرعية الدولية ذات الصلة في اليمن، أضف إلى ذلك، أن هذا هو المنطق الذي لا يمكن تجاهله.
إن بناء عملية سلام حقيقية في اليمن تتطلب من المتحاورين في المفاوضات المزمع إجراؤها بعد أيام في الكويت، الاتفاق على خارطة واضحة تأخذ بالحسبان كل ما سبق، توافقات اليمنيين أثناء الفترة الانتقالية، وما نصت عليه قرارات مجلس الأمن ذات الصلة ومنها قرار 2216.
يتوجب وفق هذه الخارطة، أن يتم البدء بإيقاف شامل لإطلاق النار، بالتزامن مع عودة الرئيس والحكومة إلى العاصمة صنعاء، وانسحاب الميليشيا من كافة المناطق وتسليم كافة الأسلحة وفق آليات فاعلة تشرف عليها الأمم المتحدة، ومن قبل رعاة العملية الانتقالية.
سيكون من المهم أيضاً تمكين ميليشيا الحوثي من الحق في التحول إلى حزب سياسي يحقق أهدافها دون استخدام القوة ودون اللجوء إلى العنف، وفي إطار الدستور والقوانين النافذة في البلاد. من حق الحوثيين أن يحصلوا على الضمانات اللازمة لعدم تعرضهم للإقصاء أو الانتقام أو الحرمان من مزاولة العمل السياسي مثلما من حق بقية الأطراف أن يعيشوا في دولة لا تنازعها الميليشيا امتلاك السلاح ومزاولة السيادة والسيطرة على أجزاء من الأرض.
ثم الذهاب للاستفتاء على مسودة الدستور التي تم صياغته وفق مخرجات الحوار الوطني الشامل، وإجراء الانتخابات المختلفة المحلية والأقاليم والنيابية والرئاسية بناء عليها.
سيكون من اللازم أيضاً لضمان استدامة السلام في اليمن اتخاذ الإجراءات اللازمة لتحقيق العدالة الانتقالية بما يكفل تكريم الضحايا وتعويضهم وكفالة عدم تكرار الانتهاكات والمجازر في المستقبل، وطي الصراعات وعمل مصالحة وطنية شاملة.
إن الطريق الآمن لبناء عملية سلام مستدامة في اليمن، يتطلب وضع حد لمستقبل صالح السياسي، ورفع غطاء الحصانة عنه، مع التنفيذ الفاعل للقرارات الدولية بخصوص الحجز على أرصدته وأرصدة عائلته، وإعادتها لليمن وحرمانهم من استخدامها للانتقام وتقويض السلام والاستقرار في اليمن مستقبلاً.
يتعين أيضاً أن تتضمن خارطة بناء السلام في اليمن التي نأمل أن تخرج بها محادثات الكويت بتمويل برنامج اقتصادي شامل، من قبل مجلس التعاون لدول الخليج العربية، والرعاة الدوليين للعملية الانتقالية بحيث تتم معالجة وترميم ما دمرته الحرب، ويكفل عملية تحول اقتصادية موازية للانتقال.