جغرافيا “عاصفة الحزم”: ستفرض اليمن على مجلس التعاون الخليجي وسترسم مستقبل مختلف للجزيرة العربية

- ‎فيكتابات

لتكونَ “عاصفة الحزم” بدايةً لمرحلةٍ جديدة جيدة، لا بد من الانفتاح بإيجابية على الدروس والعبر التي تقدمها بأثرٍ رجعي، كنهاية مؤسفة لمرحلة قديمة، كانت بالضرورة طافحة بالسلبيات، وهناك- أو يجب أن يكون هناك- توجهٌ إقليمي جاد لتجاوزها، وخلق شروط مختلفة لحقبة مختلفة في تاريخ الجغرافيا السياسية للمنطقة.

فقط، بهذا الشكل يمكن للعاصفة أن تكون أكثر من مجرد تدخل عسكري دمر البنية الصناعية والتجارية والأمنية والعسكرية والسياحية والعلمية والتعليمية.. الهشة في اليمن، وأسوأ من ذلك تدمير البنية النفسية، وتمزيق النسيج الاجتماعي، وخلق تصدعات مرعبة في الوحدة الوطنية.

بعبارة أخرى يمكن للأطراف المعنية، ولو في هذا الوقت التأخر، جعل “العاصفة” حلا، لا مشكلة إضافية في سياقها الإقليمي المثقل بالاختلالات المتقادمة التي تكشفت تداعياتها التراكمية: عن دول الخليج، وهي تدشّن التدخل العسكري في اليمن، تبعاً لمخاوف مبالغ فيها عن اليمن، وهي تنخرط في الصراع الإقليمي كحربة إيرانية في خاصرة الخليج.!

هل كان يمكن أن تحدث الأمور بطريقة مختلفة؟ ومن المسئول؟ وما الذي يمكن أن يبرر لهذا التشظي الإقليمي، أو لتجزر الجزيرة العربية الواحدة بهذا الشكل المشِكل؟!

دور اليمن، في صناعة المشكلة اليمنية، هو أوضح من أن يتم الإشارة إليه، لقد فشلت جميع السلطات، وكافة النخب السياسية، ومختلف مراكز القوى الاجتماعية والدينية.. في اليمن، طوال حوالي مائة عام من الاستقلال عن الدولة العثمانية، وخمسين عاما من النظام الجمهوري، وربع قرن من تحقيق الوحدة اليمنية، من بناء دولة مؤسسية مدنية، ولو بالحد الأدنى من المعاصرة.!

على أن تحميل اليمن وحدها مسئولية هذه “المشكلة الإقليمية”، فيه الكثير من التسطيح والتبسيط المخل لمنظومة مركبة ومربكة من الإشكاليات العميقة والمتقادمة التي فخخت وتفخخ واقع المنطقة بالكثير من المخاطر والمفاجآت.. وهذه في الواقع مقاربة للمشكلة على ضوء تاريخ الجغرافيا السياسية، وبما يراعي حكمة “ديجول”: “لا تتحدث في السياسة إلا والخارطة مفتوحة أمامك”.

..

تجزر الجزيرة العربية:

في حين تبدو “جزر الكاريبي” أقرب لليمن من جارتها الخليجية “عُمان”، بحكم البرودة التقليدية المحبطة للعلاقة بين الجارتين، فإن علاقة اليمن بالسعودية، جارتها الخليجية الأخرى، هي على العكس تماما، بالغة الكثافة والتعقيد، إيجابا وسلبا، كما لو كانت اليمن جزيرة تحيط بها السعودية من كل الجهات.!

وصولا إلى الإمارات والبحرين وقطر والكويت، تصبح القضية أكثر تبايناً وإشكالاً .. التجانس المميز في علاقة دول الخليج العربي ببعضها، ينقلب إلى تباين ملفت، خصوصاً حين يتعلق الأمر بعلاقة كل منها على حدة باليمن، في سياق عام لا يعبر عن عفوية التنوع، بقد ما يعبر عن غياب البعد الاستراتيجي، أو بالأحرى وجود استراتيجية قائمة على العزل والمفاصلة، أو التجاهل والتهميش في أحسن الأحوال.

وفي الحقيقة هناك أكثر من الجغرافيا لربط اليمن بدول الخليج، فحتى لو انسلخت اليمن عن جغرافيتها، لتصبح جزيرة نائية في محيط بعيد، لا يمكن لهذا البلد المضطرب بشكل مزمن أن ينسلخ عن امتداده الجيني والاجتماعي، وعمقه السياسي والاقتصادي، وكينونته الثقافية والقومية والدينية .. المتواشجة بشكل عضوي ومصيري بدول الخليج العربي.

ينطبق هذا بالمثل على دول الخليج، في علاقاتها ببعضها، وفي علاقاتها، كدول، أو كتكتل سياسي، باليمن، ما يوفر شروطا مثالية لعلاقات ثنائية مميزة، وتكتل إقليمي نموذجي، على امتداد الجزيرة العربية الواحدة.

بيد أن الواقع، يجري على العكس تماما من هذا الممكن المفترض، ويجري في كل مرة باتجاه المزيد من عزل واعتزال هذه الدولة التي تمثّل واحدة من سبع دول تتشارك خارطة ما يُعرف بـ “شبه القارة العربية”.

تجزر الجزيرة العربية بهذا الشكل المؤسف، تجاه اليمن، وغياب هذه الدولة عن “مجلس التعاون الخليجي” في عصر العولمة والتكتلات الدولية، وتجاهلها في سياق استقطاب وصراع إقليمي تتخندق فيه إيران على جبهات متعددة من المنطقة .. عوامل مهمة تجعل انزياح اليمن عن محيطه الإقليمي، وانحيازه بعيدا عنه، مسألة واردة في كل مرة تتجاوز فيه الاحتقانات نقطتها الحرجة، لتتفجر بشكل كارثي.

..

بين “عاصفة الحزم” وعاصفة الصحراء:

حدث ما يشبه هذا الانفجار الكارثي من قبل، خلال حرب الخليج الثانية1990م، لم تكن العراق حينها، ولا إيران الآن، أقرب لليمن من دول الخليج، لكن اليمن، في كل مرة، كانت، أو هكذا فُهمت، تغرد خارج سربها الإقليمي، في مفارقة سياسية متخمة بعلامات التعجب والاستفهام.!

إثر اجتياح نظام “صدام حسين” للكويت، وبغض النظر عن الموقف اليمني المعلن ضد الاجتياح، ومع تحرير الكويت، وسحب القوات العراقية منها، كان الموقف اليمني ضبابياً، وفي سياق مد قومي ووطني عارم، مناهض للتدخل الأجنبي، وضاغط باتجاه حل عربي خالص، اتخذت اليمن موقفا مشوشّا تجاه نقطة التدخل العسكري غير العربي.

دول الخليج، من جهتها، وبدلاً من تلخيص المشكلة المحدودة في تلك النقطة المحددة، وتفهّم الملابسات والخلفيات الموضوعية وراءها، بل واعتبارها مناسبة لمقاربة الإشكاليات العالقة، اعتبرت معارضة التدخل الأجنبي، معارضةً للحق الكويتي، ومناكفةً للموقف الخليجي، وانحيازا لنظام “صدام حسين” وتدخله العسكري في الكويت.!

كان هذه نقطة بالغة الحساسية بالنسبة لدول الخليج، تشكلت على إثرها أخطر المنعطفات الحديثة في العلاقة اليمنية الخليجية، تم قطع الدعم والتسهيلات والامتيازات الخليجية التي كانت تحظى بها اليمن باعتبارها درعا خليجيا لمواجهة المد الشيوعي، كما تقلصت الجوانب المتعلقة بالعمالة والاقتصاد ودعم التنمية، خاصة من قبل السعودية والكويت، وعلى الفور تم ترحيل ما يقارب مليون عامل يمني من هذين البلدين.

المهم، مع نهاية الحرب العالمية الباردة، بدأت حرب خليجية باردة على اليمن، تسببت تداعياتها طوال أكثر من ربع قرن، بأزمات سياسية واقتصادية وأمنية واجتماعية.. بلا حدود، وأدت بشكل مباشر وغير مباشر إلى اندلاع الحرب الأهلية اليمنية صيف 1994م، والتي تدخل فيها الخليج بشكل سلبي، وبأزمة 2011م والتي تدخل فيها الخليج بشكل إيجابي، سرعان ما انتهى إلى التدخل العسكري بعد تفجّر تداعيات الأزمة، وخروجها عن السيطرة.

تحت ضغط العزلة:

إذا كان من المهم تأكيد أن ملابسات الموقف، أو اللاموقف اليمني، خلال حرب الخليج الثانية 1990م، تضمن بعض التعاطف المعنوي مع العراق، فإن من الأهم تأكيد أن ذلك حدث ذلك بعد عام واحد فقط من ترحيب العراق بانضمام اليمن الشمالي، في مجلس التعاون العربي 1989م، وبعد ثمانية أعوام من الشعور اليمني بالعزلة والاستبعاد الإقليمي، نتيجة حرمان اليمن بشطريه من عضوية مجلس التعاون الخليجي 1981م.

منذ البدء، وحتى الآن، بعد مرور “35”عاما، من تشكيل مجلس التعاون الخليجي، لم تحاول دول الخليج احتواء اليمن في تكتلها، وتنزعج من انخراطه أو حتى تعاطفه مع عنصر من تكتل إقليمي آخر، وتواجه انزياحه وانحيازه بعيدا عنها، في كل مرة، بردود أفعال كارثية مكلفة، مع أن استيعاب اليمن واحتواؤه في محيطه الإقليمي هو بكل الاعتبارات أقل كُلفة، وأقوى ضمانة، من تلك التي قد توفرها الحروب الباردة أو الساخنة.!

..

الخليج والدولة في اليمن:

كان-وسيظل دائما- في صالح دول الخليج أن يكون في اليمن دولة مركزية قوية، قادرة على حفظ الأمن، وتحقيق التنمية، وضبط الحدود، والمشاركة بفعالية في مكافحة الإرهاب، وتجارة وتهريب السلاح والمخدرات على المستوى المحلي والإقليمي والدولي.

لكن بعض دول الخليج، وبعيدا عن هذه المصالح البديهية والاستراتيجية المفترضة، كانت وما تزال تتبنى تجاه اليمن سياسة قائمة على الاضعاف المنهجي للدولة، لصالح تقوية نفوذ وتنامي مراكز القوى خارج الدولة وداخلها!.

خلال الخمسة عقود الماضية، لم تكن بعض دول الخليج هذه تتعامل مع اليمن من باب مؤسسات الدولة، بل من نافذة مراكز القوى خارجها ضمن لوبي كبير يُعرف تقليديا بـ “اللجنة الخاصة”، وتضم الآلاف من مشايخ قبائل وجنرالات وسياسيين ومثقفين.. في شبكة عملاقة تتمدد بانكماش الدولة وعلى حسابها.. خاصة في شمال الشمال.

كما دأبت هذه الدول، وما تزال، على دعم رجال دين وجماعات دينية سياسية مسلحة، كالجماعات السلفية والإخوان المسلمين، ما يدفع على التساؤل الوجيه: ما الذي يميز هذه الدول الشقيقة عن “إيران” التي تدعم بدورها، وبشكل فضفاض وأقل مباشرة، جماعة دينية مسلحة هي “الجماعة الحوثية”؟!

في كل حال، تمخض كل ذلك في الأخير، عن دولة ضعيفة مهترئة، ومراكز قوى عملاقة، وجماعات دينية متناحرة، ومما يمكن أن يكون ذا مغزى في هذا المقام أن الحوثيين ظهروا بالذات في مناطق شمال الشمال، هذه المناطق الحدودية التي دأبت بعض دول الخليج على تسمين نفوذ مشائخها على حساب الدولة!.

..

أما بعد..

بهذا الشكل تنفتح عاصفة الحزم، على تاريخها الجيوسياسي المليء بالإشكالات والتعقيدات، وعودا على بدء، لا يمكن لعاصفة الحزم هذه أن تكون نقطة تاريخية فارقة، ما لم يترتب عنها تحول نوعي عميق، في أسس وقيم الجغرافيا السياسية للمنطقة، دخولا في مرحلة مختلفة نوعيا، وفق أسس ومنطلقات ورؤى علمية معاصرة، قائمة على مراعاة العلاقة التكاملية الحاسمة بين البيئة والثقافة والاقتصاد.. والمنطق المكاني للسياسات والقرارات المحلية والإقليمية، والبعد المكاني للتفكير والتخطيط الاستراتيجي، باعتبار ” الجغرافيا أم الاستراتيجية” حسب العبارة الشهيرة لـ “غراي ولسون”.

سيفرض ذلك بالضرورة، على دول الخليج، تجاه اليمن، بعض الالتزامات المبدئية، تتضمن في حدها الأدنى:

-استيعاب اليمن في مجلس التعاون الخليجي، بعضوية كاملة، وبما يترتب عن هذا الاستيعاب من التزامات وقيم مشتركة على مختلف الجوانب والمستويات.

-إعادة إعمار ما دمرته الحرب، والتعاون في تأسيس بنية تحتية قوية، لمؤسسات الدولة والمجتمع المدني، وبما يجسر بعض الهوة السحيقة بين اليمن ودول المنطقة.

-عمل دول الخليج كل ما من شأنه الحفاظ على وحدة اليمن واستقراره، وسيادته، وتمكينه من الخروج من مرحلة ما قبل الدولة، وبناء دولة قوية قادرة على أداء وظائفها تجاه مواطنيها، والمساهمة بإيجابية على البعد الإقليمي.

– إتاحة حرية التنقل والعمل والتجارة .. بين اليمن ودول الخليج، على الأقل باستلهام امتيازات اتفاقية الطائف “1934م”، بين اليمن والسعودية، وبما يضع “الاستثناء اليمني”، في دول الخليج، كمعيار للمفاضلة بين العمال والخبرات والمنتجات الوافدة، في حال تساوت بقية المعايير.

أخيراً:

بدون هذا الاستيعاب والتأهيل، ودمج اليمن سياسيا واقتصاديا وثقافيا.. في منظومة إقليمية متجانسة، قادرة على تجاوز الشكليات والإشكالات، بحثا عن القيم والمصالح الجوهرية المشتركة، واستشراف المستقبل باستراتيجيات متكاملة.. سيظل الوضع اليمني والخليجي قلقاً ومتوترا ومفتوحا على المخاوف المستمرة، والمخاطر الواردة.