السلطة أهمّ من الوطن. أهمّ من الشعب والدولة والشرعية. أهمّ من العمران والاقتصاد… لأن السلطة، كما ارتسمت ومورست بعد الاستحواذ عليها في يمن علي عبدالله صالح ومن سبقه من ضبّاط، قبل «توحيد» الشطرين وبعده، أعفت الحاكم من واجبات إنشاء الدولة واحترام الشعب والاهتمام بالتنمية، وتحوّلت مصهراً للاستبداد، وهو أسوأ أنماط الفساد. ولأن السلطة، كما استورثها الحوثيون من علي عبدالله صالح وكما باشروها، تحاول تخليق «ما بعد بعد» الاستبداد، لذلك تحوّلت معهم فعلَ احتلال، وهو أسوأ الأسوأ. وهكذا تبدو الحكومة الشرعية، وهي «تشاورهم» في الكويت لأنهم يستكثرون عليها أن تفاوضهم، في دور «الأم» المضطرّة للتخلّي عن ولدها حيّاً مخافة تقطيعه، وبالتالي قتله كما يريد مَن ينازعونها عليه، وفقاً للمثل الأخلاقي الكلاسيكي المعروف. غير أن الأخلاقية مفتقدة كليّاً عند الحوثيين وحليفهم.
تعقد مشاورات/ مفاوضات الكويت تحت رعاية الأمم المتحدة وبهدف تنفيذ القرار الدولي 2216 الذي صيغ وبني على أساس اعتراف بحكومة يمنية شرعية موجودة وجرى الانقلاب عليها بتواطؤ وتعاون بين ميليشيات محلية ورئيس تنحّى ظاهرياً من أجل مصلحة البلد، لكنه تفرّغ عملياً لنصب الأفخاخ والمكائد، مصادراً بعض وحدات الجيش ومحافظاً على خطوط اتصال مع مجموعات إرهابية تعمل تحت راية تنظيم «القاعدة». وكما أن ميليشيا الحوثيين، أو جماعة «أنصار الله»، استقوت بالعلاقة التي أقامتها مع إيران وقاتلت الجيش الحكومي في صعدة أيام حكم الرئيس السابق وحليفها الحالي، كذلك كانت إيران اخترقت ما سمي «الحراك الجنوبي» من خلال بعض الأقطاب الجنوبيين السابقين، بل إن تقارير عدّة بيّنت أن تنظيم «قاعدة الجهاد في الجزيرة العربية» عوّل في تسلّحه على علاقة قيادته مع إيران. وما دام الرئيس السابق تعايش مع هذه الوقائع وحاول إدارتها، سواء بمقاومتها أو بتسهيلها، ودائماً للتلاعب بها وابتزاز القوى الخارجية في شأنها، فإنه تأهّل بجدارة ليصبح أيضاً حليفاً لإيران.
أغرب ما في مشاورات الكويت أنها تبدو أشبه بمناورة تغطّيها الشرعية الدولية لدفع الشرعية اليمنية إلى الاعتراف بـ «شرعيةٍ» ما للانقلابيين الذين نهبوا مؤسسات الدولة ومعسكرات الجيش وأسلحته واحتجزوا كل من وصلوا إليه من أعضاء الحكومة واعتقلوا أو قتلوا كلّ من عارض تسلّطهم. لم يكن المبعوث الأممي مَن دعا وفد الشرعية إلى التفاوض على حكومة مع الانقلابيين ولو لم يبدِ الحوثيون أي نية أو استعداد لتسليم الأسلحة الثقيلة والانسحاب من المدن، بل كان السفير الأميركي مَن استسهل الضغط على الوفد الحكومي طالما أنه يتعذّر عليه التأثير في مواقف الانقلابيين. والهدف المعلن «إنقاذ المفاوضات»، من دون النظر في ما يترتّب على خيار كهذا من إلتفاف على قرار دولي متّخذ تحت البند السابع من ميثاق الأمم المتحدة. أما الحجّة فهي أن الحكومة الشرعية و»التحالف العربي» الذي يدعمها لم يدعوَا يوماً إلى إقصاء الحوثيين أو أي طرف آخر، أي أن الجانب الأميركي يستخدم رحابة الشرعية ضدّها. لكن الفارق شاسع بين تفاوض مع أطراف تعترف بالدولة وتحترمها وتفاوض مع طرف ارتكب كل الانتهاكات ضدها، ولم يأتِ إلى التفاوض أصلاً إلا للمساومة على حصّته في الحكومة، ففي حال ارتضاها يقرّر في ضوئها نسبة استجابته لمتطلّبات القرار 2216، وإذا أصبح «شريكاً حكومياً» فإنه قد يطرح تقاسم المدن لا الانسحاب منها أو تقاسم الأسلحة المنهوبة من الدولة بدل إعادتها إلى حكومةٍ هو جزءٌ أساسيٌ منها.
عندما تأتي مساعٍ تمييعية كهذه من جهة دولية أميركية يمكن فهمها في اتجاهين متلاقيين في النهاية: الأول، أنها ترسل إشارة خاطئة إلى الحوثيين مفادها أن منطق الميليشيات بتعنّته وتصلّبه ليس مجدياً فقط، بل يمكن أن يؤدّي إلى النتائج التي يتوخّونها. والآخر، أن القرارات الدولية لا تعني شيئاً لدى البحث عن حلول تفاوضية وهذا يفسّر ضعف دور المبعوث الدولي وانعدام تأثيره طالما أنه يخطط للتفاوض وفقاً للقرار 2216 لكنه مضطر لأن يأخذ في اعتباره تفويضاً غير مكتوب يتمثّل بإرادة الدول الكبرى وقد يتناقض مع مقتضيات الشرعية… وإذ يوجد ثماني عشرة دولة يواكب سفراؤها «مشاورات» اليمنيين في الكويت، فقد تأثّرت أجواء التشاور سلباً بما يجري في الأروقة والكواليس وبما ينقله «مستشارون» إيرانيون يحملون جنسيات شتّى، خصوصاً أن هؤلاء السفراء والمستشارين ليسوا مجمعين على المفاهيم نفسها ولا مصممين على ضرورة إعلاء كلمة الشرعية الدولية. وبديهي أن هذا الحشد الديبلوماسي يحمل أجندات ملتبسة ومتناقضة، إذ يتيح مثلاً للإميركيين والروس وسواهم إرسال إشارات إلى إيران من خلال الاقتراحات المتمشّية مع تصوّرات الحوثيين لمسارات التفاوض.
وكان الحوثيون وحلفاؤهم جاؤوا إلى الكويت متأخرين أربعة أيام وتذرّعوا بخروق وقف إطلاق النار (بدأ في 10/04/2016) لتبرير تخلفهم عن الحضور في الموعد المحدد للشروع بـ «التشاور»، لكن هذا كان جزءاً من استراتيجيتهم للتفاوض كما ظهرت فور وصولهم، إذ بادروا إلى نقض جدول الأعمال الذي اقترحه اسماعيل ولد الشيخ أحمد وكانوا وافقوا عليه أواخر آذار (مارس) الماضي بالتزامن مع قبولهم الهدنة. لا يريدون اتفاقاً على إجراءات لبناء الثقة ومنها إطلاق المعتقلين، ولا البحث في الإجراءات التي يطلبها القرار 2216 (لا يعترفون به عملياً) ومنها الانسحاب من المدن وتسليم الأسلحة ومؤسسات الدولة. كانت النقطة التي شدّدوا عليها هي نفسها التي أفشلت سابقاً جولتي جنيف: وقف ما يصفونه بـ «العدوان» متمثّلاً بالقصف الجوي الذي يقوم به «التحالف العربي»، مقابل وقف إطلاق النار وتثبيته. استهلك هذا الجدل أسبوعاً من دون جدوى، وتطلّب الأمر تدخلاً كويتياً على أعلى مستوى وآخر دولياً لإقناعهم بالبقاء في الكويت، بعدما هدّدوا بالمغادرة، لكنهم بدّدوا أسبوعاً ثانياً في نقاش على جدول الأعمال فقيل إنه تمّ الاتفاق عليه بل جرى التوقيع عليه وبوشر العمل به ليتبين أنهم عادوا الى نقضه والمطالبة بتغيير أولوياته. وفيما كانت اللجنة الأمنية تبحث في آلية لتسليم الأسلحة كانوا يهاجمون معسكر «العمالقة» في عمران ويستولون على أسلحة جديدة، وحتى حين أعلن عن اتفاق على تبادل اطلاق نصف المعتقلين – جميعهم يمنيون – اشترطوا لتنفيذه حصول تقدّم في مجمل المشاورات، وبالأخص الاتفاق على حكومة جديدة أو «سلطة تنفيذية» (تشكّل مناصفة بينهم وبين حلفائهم من جهة والحكومة الشرعية من جهة أخرى) لتتولّى الإشراف على تنفيذ ما يُتفق عليه.
هذا ما يسمّى التفاوض على التفاوض، بل هو تفاوض لتعميق الخلاف لا لجسره ولكسب الوقت تحضيراً للهجمات التالية. ذاك أن دفع «التشاور» من نتكاسة إلى انتكاسة تكتيك متعمّد لإثبات أن الأمر الواقع الميليشيوي فرض نفسه وبات بديلاً أقوى من الشرعية، وقد ازداد قوةً وفجوراً مع تيقّنه بأن الإرادة الدولية لا أسنان لها ولا تلوّح باستخدام القوة (بموجب البند السابع). لم يتمكّن الحوثيون من خلط أوراق التفاوض فحسب بل استطاعوا قبل ذلك إلغاء وجود الدولة على الأرض، فثلثا عديد الجيش لا يشارك في الحرب والثلث الآخر انقسم بينهم وبين الحكومة، والوزارات إمّا نهبوها وعطّلوها وما استبقَوه منها وضعوا فيه رجالهم. ثم أنهم، فوق ذلك، لم يأبهوا يوماً للوضع الإنساني الصعب الذي فرضوه على اليمنيين، لكنهم يستخدمونه في تكتيكات التفاوض كعنصر ضاغط لحمل الحكومة على التنازل من دون أن يبدوا بدورهم أي استعداد للتنازل. بل أن روسيا التي لا تكترث لمعاناة السوريين استجابت لضغوط ايران وراحت منذ شهور تلوّح بالوضع الإنساني في اليمن بغية استصدار قرار دولي لوقف الحرب. وبطبيعة الحال لا بدّ للحرب أن تنتهي، غير أن إنهاءها بإبقاء الحوثيين وصالح على تسلّطهما الحالي سيعني كارثة لليمن واليمنيين بمقدار ما يهدّد بتفجير الاحتقان والتوتر الإقليميين.
(الحياة)