طبقاً لمسؤولين في جماعة الحوثي، كصلاح العزي الناطق السابق للجماعة، فإن دولاً خليجية ساندت، بصورة أو بأخرى، تحركات الحوثيين تجاه صنعاء، مقتنعة بالفكرة التي تقول إنهم يسعون لاجتثاث حزب الإصلاح، وحسب. واحدة من الخطايا الجسيمة التي ارتكبتها السياسة الخارجية الخليجية اعتقادها أن بمقدورها الحصول على وضع آمن في جنوب الجزيرة العربية بمجرد أن تسمح لجماعة دينية مسلحة بالقضاء على أكبر حزب سياسي في اليمن.
لم يمضِ سوى وقت قصير حتى اجتث الحوثيون السياسة كلها، ثم الجمهورية، وقاموا بأول مناورة عسكرية على الحدود مع السعودية، انطلقت أناشيدهم الدينية، في الأفراح والاحتفالات الطقوسية؛ لتتحدث عن نواياهم لاجتثاث نظام الحكم في السعودية، وبعد مناورتهم العسكرية تمنت صحيفة المسار، التابعة للجناح السياسي في الحركة، في عنوان كبير أن تكون الرسالة قد فُهمت في الرياض كما ينبغي، لقد اجتث الحوثيون كل الناس، اليهود والسلفيين وشيوخ القبائل، ثم حزب الإصلاح.
لم ينزل الحوثيون من الجبل بكتاب في السياسات بل بالقوة القهرية، وتلك آلة عمياء تعجز عن رؤية التنوع الخلاق، وتفشل في فهم الحياة المشتركة، ولا تعترف سوى بالامتثال الإجباري، وعندما تكون الجماعة أقلية في طبيعتها، كما في الحالة الحوثية، فإن حرباً وشيكة تكون في الانتظار، هذه البديهيات عجز العقل السياسي الخليجي عن التنبؤ بها، فدفع اليمن إلى الهاوية ثم انطلق وراءها، معرضاً أمنه القومي وسمعته الدولية للخطر من أكثر من جهة.
العبث مع الحركات الدينية المسلحة يفضي إلى نتائج وخيمة، أما جماعة الحوثي فأضافت إلى عنفها الديني، النظري والمادي، امتلاكها لعقلية مراهقين، قرعت مؤسسة لابيس، وهي مؤسسة اتصالات تنشط في منطقة الشرق الأوسط، الأجراس عندما نشرت مؤخراً، في دراسة ميدانية عن الإرهاب الإسلامي، معلومات تقول إن 90% من المتطرفين لا تزيد أعمارهم على 25 عاماً، “إننا نتعامل مع عقلية المُراهقين” قالت المؤسسة، وهي العبارة نفسها التي كتبها وزير الخارجية اليمني على “تويتر” بعد خروجه من واحدة من جلسات الحوار في الكويت.
في العام 2013 أصدر الاتحاد الأوروبي تقريراً قال فيه إن جزءاً كبيراً من الاستثمارات السعودية الدينية في آسيا ذهب إلى جماعات إرهابية، بصرف النظر عن مدى دقة التقرير، فقد كان الحوثيون واحداً من الاستثمارات الخليجية السيئة في آسيا، قبل أن يتحتم على الخليجيين العمل على تقويض ذلك الاستثمار الضار، فبينما كان الحوثيون يحاصرون مدينة عمران، البوابة الشمالية للعاصمة صنعاء، كان السفير السعودي يقول لمجموعة من الصحفيين، بثقة قل نظيرها، إن السعودية لا تنظر إلى الحوثيين كعدو.
المتغير الجوهري لم يكن، في الأساس، في انقلاب الحوثيين على تعهداتهم لدول الخليج بل في وصول نظام جديد إلى قصر الحكم في السعودية، بمخاوف مختلفة ورؤية مختلفة. حصار صنعاء، وظهور إيران في المشهد على نحو أكثر وضوحاً، أيقظ مخاوف جزء من النظام السعودي، وبقي بروز موقف سعودي صلب ومختلف رهيناً بتغير جذري في طبيعة الحكم السعودي أو فلسفته.
في أغسطس/آب 2014 نشرت صحيفة الأولى، القريبة من جماعة الحوثي، خبراً يقول إن الإمارات تقود وساطة بين السعوديين والحوثيين، كان الحوثيون في تلك الأثناء يضربون حصاراً مخيفاً على صنعاء ويحشدون كل قوتهم لاجتياحها، وبالطبع فإن الوساطة في ذلك الوقت لم يكن لها من معنى سوى تبديد مخاوف السعوديين من العملية التي يزمع الحوثيون القيام بها، أي تدمير الجمهورية.
ركز الخليجيون على جزء يسير من الصورة، الجزء الذي سيطر على رؤيتهم للسياسة كلها، وهو أن الحوثيين سيقوضون حزب الإصلاح القريب من الإخوان المسلمين، كانت المعادلة أن يغض الخليجيون الطرف عن قيام جماعة دينية مسلحة، طائفية الطابع، بالقضاء على حزب سياسي، لا توجد دول تعنى بأمنها القومي بمقدورها تقبل مثل هذه المعادلة الخطرة في دولة جارة.
استطاع الحوثيون، بالفعل، تجريف كل حزب الإصلاح من المناطق التي دخلوها، ومؤخراً من صنعاء، لكنهم كانوا يفعلون ذلك كشيعة، ويفعلون بالإصلاح ذلك كحزب سني كبير، قاتلوه كشيعة وقتلوه كسني، جاءوا مسلحين وقتلوه في مقراته الحزبية، كانت تلك هي الحقيقة التي أفزعت نظام الحكم الجديد في السعودية، وعجز نظام الحكم السابق عن التنبؤ بها، وقبل أن يجتث الحوثيون حزب الإصلاح كان نظام الحكم الجديد في السعودية قد اجتث سلفه كلياً.
لقد كلف السعوديين الإصرارُ على إنهاء نظام صدام حسين ظهور نظام جديد تبدو عدوانيته تجاه الخليج مغروسة في كتبه المقدسة، لا في برنامجه السياسي، جاء النظام الجديد في بغداد فقتل صدام حسين كرئيس سني لا كرئيس طاغية، نتائج المخاطرة مع الجماعات الدينية المسلحة، والمراهقة، وخيمة، ويبدو أن الخليج يعيد الكرة من جديد، وتحديداً في جنوب اليمن، ها هو يستخرج من المجهول جماعات وفرقاً ثم يدربها، ويطلقها، مرة أخرى، يستخدم الخليجيون جماعات مسلحة لا علاقة لها بالسياسة، ولا تمثل أي مرجعية قانونية، لاجتثاث حزب سياسي، تمثل الأحزاب، تاريخياً، الصورة الأكثر حداثة للسياسة والحُكم، أما العمل على تقويضها فليس سوى نشاط بربري. ليس حزب الإصلاح بالحزب المكتمل الجودة، لكنه جزء من حياة اليمنيين العلنية ويعكس ميل قطاع واسع منهم إلى العمل المدني المستقر والقانوني، معاقبته المتكررة على انخراطه في السياسة هي عقاب للسياسة نفسها، واحتقار لها، تلك هي فكرة الحوثي التي فاجأ بها الوفد الرئاسي في أغسطس 2014، وهم يعرضون عليه فكرة التحول إلى حزب سياسي، قال الحوثي إن الأحزاب السياسية مشكلة، وجاء بالبديل الذي فتح باب الجحيم، التحالف الخليجي في جنوب اليمن يعيد إنتاج المشهد السوداوي نفسه، بميكانيزم لا يختلف كثيراً عن سابقه، وكأن الأغنياء سمحوا لأنفسهم باستباحة كل شيء في البلد الفقير، وكسر خاصرته في كل مرة حاول فيها أن يقف على قدميه.
في الأسبوع الماضي اجتاحت قوة عسكرية كبيرة، ليلاً، مقر حزب الإصلاح في مدينة المكلا، عاصمة حضرموت، نهبت القوة العسكرية محتويات المقر، وألقت القبض على المتواجدين بداخله، قال محافظ حضرموت في بيانه إنه يدين العملية التي من شأنها أن تصب الزيت على النار، بينما قالت جهة أخرى أطلقت على نفسها مسمى الجيش، وهي جهاز أمني حديث التكوين يعمل في خدمة قوات التحالف الخليجية، إنها فعلت ذلك بعد أن تأكد لها أن حزب الإصلاح يعمل مع تنظيم القاعدة، قبل ستة أشهر انفجر لغم بعربة إماراتية في عدن وقُتل في الحادث جنود إماراتيون ومقاومون ينتمون إلى حزب الإصلاح كانوا يساندون القوات الإماراتية، ومؤخراً، تبدو الإشارات التي يرسلها الخليجيون تتجه صوب محاولة جديدة لاجتثاث حزب الإصلاح مع مد جسور جديدة مع الحوثيين وبقية القوى المسلحة في الجنوب والشمال، يعجز الخليجيون في تصور السياسة، متماهين مع ضباب الحوثيين نفسه، عاجزين عن تقديم أنفسهم كأنظمة سياسية ذات عقلية أكثر تحضراً من الحوثي، في النفق الطويل المظلم تبدو المخاطرة الأكثر مأساوية هي إدارة الصراع عبر مزيد من الصراع.
خلال ربع قرن انخرط حزب الإصلاح في السياسة، ولم تكن قوته في القبيلة، بل في الحركة الطلابية، الجماعات الإرهابية لا تعيش داخل الحركات الطلابية بل في الظلام، شارك الحزب في تنمية السياسة، وساند الدولة الجنينية الهشة في لعب دور اجتماعي واسع على مستوى الإعانات الطبية والغذائية وقدم خدمة تعليمية موازية كاملة الدعم، وكان على مر الأيام يعمل في العلن وتحت نظام الجمهورية، حيث كتلته البرلمانية، وما إن بدا نظام صالح يسعى لخلق مسرح الرجل الواحد حتى غادره حزب الإصلاح واتجه إلى قوى المعارضة، أبدى الحزب، من خلال مهندس سياساته محمد قحطان، قدرة مثيرة في الانفتاح على كل تنويعات الحركة الوطنية السياسية، وسرعان ما انتقل، مع الحركات الطلابية، من السياسة إلى الثورة، ومن الثورة إلى المقاومة، يمتلك الحزب، إحصائياً، داخل نظامه النسبة الأكبر من حملة الدكتوراه في اليمن، كما يهيمن بصورة واضحة على الحركات الطلابية والطبقة الوسطى، أما اليدومي وآل الأحمر والجنرال علي محسن فهم الجانب الأقل جاذبية وإشراقاً في الحزب، النظر إلى حزب الإصلاح من هذه الجهة، باعتبار هذا الثالوث الباب الرئيسي للحزب، لن يعطي معلومات حقيقية عن طبيعة الحزب ولا عن حقيقته.
حزب الإصلاح، الذي يتعرض لمحاولات اجتثاث حثيثة، هو حزب ينتمي إليه مئات آلاف اليمنيين، وليست محاولة تقويضه سوى حرب على أولئك اليمنيين الذين يطالبهم الخليجيون بدفع ثمن معركتهم السياسية في دول أخرى.
تحاول السعودية، وحلفاؤها، الوصول إلى حالة مستقرة في المشهد اليمني؛ لأجل إنجاز تلك الغاية، فهي بحاجة إلى حلفاء في الداخل، يمثل الإصلاح الحليف النموذجي كونه حزباً سياسياً غير طائفي لا تزال الكثير من مناصبه القيادية مسنودة إلى رجال ينتمون إلى المذهب الزيدي، بالمعنى العقدي أو التاريخي الاجتماعي. في بلد مثل اليمن، حيث لا شيء متماسك، وحيث كل شيء عشوائي وهلامي حتى فكرتا الجمهورية والدولة، من الجيد لمصلحة البلد نفسه أن يكون هناك حزب سياسي كبير ومستقر، ويتمتع بمسؤولية اجتماعية وخبرة سياسية واسعة.
ها هي الحرب الأخيرة في اليمن دفعت العالم كله إلى محاولة إقناع الحوثيين بجدوى العمل السياسي، غير أن الخليجيين، كما تقول الإشارات، يعملون أيضاً على طرد حزب الإصلاح من السياسة، ولا يعلم أحد ما الذي سيفعلونه مستقبلاً فيما لو انقلبت الرياح وراحوا يتوسلون لحزب الإصلاح لأجل “العودة” إلى العمل السياسي، ليست سوى مراهقة تلك المعادلة التي تحاول خلق استقرار من خلال طرد جماعة إلى خارج السياسة، وجلب جماعة أخرى إلى داخل السياسة.
من الجيد أن تكون الخاصرة الجنوبية للسعودية مستقرة، فلا توجد دولة في العالم تريد أن ترى النيران في الجوار، وتلك غاية بمقدور الخليجيين إنجازها فيما لو لم يستسلموا للأوهام، ووضعوا حداً للعقلية المُراهقة.