كانت مدينة أوزايورسك، التي يطلق عليها اسم “المدينة 40” مهد برنامج الأسلحة النووية السوفيتية، وهي الآن واحدة من أكثر الأماكن تلوثاً على الكوكب -فلماذا لا يزال ينظر إليها الكثير من مواطنيها باعتبارها جنة يحيطها سياج؟
تقع بعمق الغابات
تقع مدينة أوزايورسك المحرمة في عمق الغابات الشاسعة لجبال الأورال الروسية. خلف بوابات حراسة وحواجز أسلاك شائكة يقبع سر جميل- مكان ساحر يبدو أنه جاء من عالم آخر.
كانت أوزايورسك، التي يطلق عليها اسم المدينة 40، مهد برنامج الأسلحة النووية السوفيتية بعد الحرب العالمية الثانية. ولعقودٍ مضت، لم تظهر تلك المدينة ذات المئة ألف نسمة على أي خريطة، ومُحيت هُويات ساكنيها من الإحصاءات السوفيتية.
تشبه أوزايورسك اليوم، ببحيراتها الجميلة وزهورها العطرة وشوارعها ذات الأشجار الفاتنة، ضاحية في مدينة أميركية تعود لحقبة الخمسينيات من القرن الماضي، مثل واحدة من تلك الأماكن المثالية للغاية التي تم تصويرها في سلسلة الخيال العلمي التلفزيونية “The Twilight Zone”.
في يوم اعتيادي، تمشي الأمهات الشابات مع أطفالهن حديثي الولادة في عرباتهم المخصصة ويلعب الأطفال حولهم في الشوارع. تصدر الموسيقى من أجهزة الأولاد المراهقين وهم يستعرضون مهاراتهم في التزلج بالألواح أمام الفتيات. في الغابة المجاورة، تسبح العائلات في البحيرة فيما يستجم كبار السن على مقاعد المتنزه، مستمتعين بمساء هادئ وهم يراقبون المارة.
على الطرقات الجانبية، تبيع امرأة محلية الخضار والفاكهة. وحدها “عدادات جايجر” -التي تكشف عن الإشعاعات المؤيَّنة- التي يتم استخدامها لفحص المنتج قبل بيعه، تُشير إلى السر الخفي الذي يطارد هذا المشهد الحضري الهادئ.
الأطعمة الملوثة
يعلم أهالي المدينة أن مياههم ملوثة، وأن نبات المشروم وثمرات التوت الخاصة بهم مسمومة، وأن أطفالهم ربما يكونوا مرضى. فمدينة أوزايورسك والمنطقة المحيطة هي واحدة من أكثر الأماكن تلوثاً على الكوكب، أو كما يُشير لها البعض بأنها “مقبرة الأرض”.
ومع ذلك فإن غالبية الأهالي لا يودون المغادرة. فهم يؤمنون بأنهم “مواطنو روسيا المختارون”، ويفخرون حتى بكونهم مواطني مدينة مغلقة. فقد وُلدوا في هذه المدينة، وتزوجوا فيها، وقاموا بتربية أسرهم فيها. وهنا دفنوا آبائهم، وبعضاً من أولادهم وبناتهم أيضاً.
منقذو العالم
عام 1946، بدأ السوفيت في بناء المدينة 40 في سرية تامة، وذلك بالقرب من محطة ماياك النووية الضخمة على ضفاف بحيرة إيرتيش. وكان الهدف من بناء هذه المدينة هو تسكين العاملين والعلماء القادمين من جميع أنحاء البلاد ليكونوا في طليعة الصفوف القائمة على تأسيس برنامج الأسلحة النووية في الاتحاد السوفيتي، وتكوين قنبلة نووية.
على مدى السنوات الـ8 الأولى، مُنع السكان من مغادرة المدينة، ومُنعوا أيضاً من كتابة رسائل، أو إجراء أي اتصال مع العالم الخارجي، بما في ذلك أفراد أسرهم، إذ اعتبر الذين تم نقلهم إلى هنا في مصاف المفقودين من قبل ذويهم، كما لو كانوا قد اختفوا في غياهب النسيان.
عاشوا حياة مرفهة
قيل لسكان المدينة 40 أنهم “الدرع النووي ومنقذو العالم”، وأن جميع من هم خارج المدينة يقعون في مصاف الأعداء. وفي الوقت الذي كانت تعاني فيه الغالبية العظمى من سكان الاتحاد السوفيتي من المجاعات والمعيشة في فقر مدقع، أنشأت السلطات مدينة كالجنة لهؤلاء السكان، ووفرت لهم حياة مليئة بالرفاهية والامتيازات.
قدمت السلطات لسكان المدينة شققاً خاصة، والكثير من المواد الغذائية -بما في ذلك أصناف الطعام اللذيذة مثل الموز والحليب المجفف والكافيار- والتعليم الجيد والرعاية الصحية، ومجموعة كبيرة من الأنشطة الترفيهية والثقافية.
حافظوا على الأسرار
في المقابل، صدرت الأوامر لسكان المدينة بالحفاظ على الأسرار المتعلقة بحياتهم وعملهم. وهي الصفقة التي لا تزال سارية حتى اليوم في المدينة التي يُخزن فيها جميع الاحتياطي الروسي من المواد الانشطارية.
العيش والإقامة في مدينة أوزايورسك هو أمر ساحر وذو شأن كبير، إذ يصفها العديد من السكان على أنها مدينة “النخبة” التي يحصلون فيها على “الأفضل في كل شيء بشكل مجاني”.
عواقب مميتة
الحياة في مدينة مغلقة كأوزايورسك لا يعني أن سكانها آمنون على حياتهم وأجسادهم فحسب، بل إن هذا يعني ضمنياً حصولهم على الاستقرار المالي اللازم لأسرهم، فالأطفال في أوزايورسك يحصلون على فرص أكبر كي ينعموا بمستقبل ناجح.
لكن، كان لذلك الاتفاق عواقب مميتة، إذ حجبت القيادة السياسية والعلمية الاتحاد السوفيتي، للعديد من السنوات، الآثار الصحية الكارثية التي أصابت سكان المدينة، وذريتهم في المستقبل، جراء تعرضهم الشديد للإشعاعات.
ومنذ البداية، عَملت أو عاشت الغالبية العظمى من السكان، بالقرب من المجمع النووي ماياك، في ظل ظروف خطيرة للغاية. فمنذ أواخر الأربعينيات من القرن المنصرم، بدأ سكان المدينة هنا يمرضون ويموتون، فهم ضحايا التعرض طويل الأمد للإشعاعات.
السر الذي حاول السوفييت دفنه
في الوقت الذي غابت فيه البيانات الدقيقة بفضل التكتم الشديد من قبل السلطات ونفيها المتكرر للأمر، كانت قبور العديد من السكان الشباب في مدينة أوزايورسك هي الشاهد على السر الذي حاول السوفيت دفنه مع ضحايا محطة ماياك.
تسببت الحوادث النووية في الكثير من الخسائر لسكان المدينة 40 ويتضمن هذا كارثة كيشتيم التي وقعت عام 1957 -والتي تُعد أسوأ حادثة نووية وقعت في العالم قبل حادثة تشيرنوبيل- والتي حجبتها السلطات السوفيتية في سرية تامة عن العالم الخارجي.
200 مليون من النفايات المشعة
وقد أشرفت إدارة محطة ماياك أيضاً على إلقاء نفاياتها في البحيرات والأنهار القريبة، والتي تصب في نهر أوب ومن ثم في المحيط المتجمد الشمالي. ولأكثر من 4 عقود، يُقال إن القائمين على محطة ماياك قد ألقوا 200 مليون من النفايات المشعة في المحيط البيئي، أي ما يعادل 4 أضعاف مما كانت تلقيه “تشيرنوبيل”، وذلك على الرغم من إنكار السلطات المتكرر لهذا الأمر.
وفقاً لبعض سكان مدينة أوزايورسك ، فإن عمليات الإلقاء ما زالت مستمرة حتى يومنا هذا. وهناك واحدة من البحيرات القريبة قد تلوثت بشدة من البلوتونيوم، وهي البحيرة نفسها التي أعاد السكان المحليون تسميتها لتصبح “بحيرة الموت” أو “بحيرة البلوتونيوم”.
تفيد بعض التقارير بأن معدل تركيز الإشعاعات قد تجاوز الـ120 مليون كوري هو أكثر بـ2.5 من كمية الإشعاع التي كانت تصدر عن محطة تشيرنوبيل.
في إحدى القرى التي تبعد نحو 20 دقيقة عن مدينة أوزايورسك، هناك ساعة رقمية في إحدى الساحات الموجودة بالبلدة تعرض التوقيت المحلي والمستوى الحالي من الإشعاع في الهواء (على الرغم من أن هذه القراءات لم تكن دقيقة على الإطلاق). ويُقال إن نصف مليون شخص في أوزايورسك والمنطقة المحيطة بها قد تعرضوا لقدر من الإشعاع يزيد بـ5 مرات عن أولئك الذين يعيشون في بعض مناطق أوكرانيا وتضرروا من حادثة تشيرنوبيل النووية.
ممنوع التعدي
على مشارف مدينة أوزايورسك، توجد علامة “ممنوع التعدي” بحجم ضخم مكتوبة بالإنجليزية والروسية، إلى جانبها كلمة “انتبه!” كُتبت بحروف حمراء كبيرة للتأكيد على الأمر. فما زال الأجانب والروس غير المقيمين، ممنوعين من دخول المدينة بدون تصريح من الشرطة الروسية السرية، والتصوير في المنطقة ممنوع منعاً باتاً.
يُسمح لأهالي أوزايورسك مع ذلك بالخروج من المدينة بتصريح مرور خاص، ويُسمح لهم حتى بالمغادرة مؤقتاً إذا رغبوا في عدم العودة مطلقاً. القليل فقط من يقوم بذلك، لأن ذلك سيعني خسارة ميزات أن تكون من أهالي هذه المدينة المغلقة.
ينظر معظم أهالي المدينة -بالطبع ليس جميعهم رغم ذلك- إلى السياج المحيط بأوزايورسك باعتباره لا يقف في طريق رغباتهم، بل باعتباره -فضلاً عن ذلك- يحافظ على جنتهم الخاصة من الغرباء، ويحميهم من “الأعداء”. لا يزال حاجز الأسلاك الشائكة جزءاً جوهرياً من المشهد العام للمدينة ومن التركيبة النفسية والهُوية الجماعية للمواطنين.
من الصعب على الغرباء أن يفهموا كيف لأهالي المدينة 40 أن يستطيعوا إكمال حياتهم في مكان يعلمون أنه يقتلهم بالبطيء. لكن صحفياً محلياً يقول إنهم لا يعبأون بما يظنه بهم العالم الخارجي وبطريقة حياتهم.
يقول إن الغالبية من الأهالي، مثله، يرغبون فقط أن يُتركوا وحدهم للعيش في “سلام”. فهم سُعداء في جنتهم المُحاطة بسياج.