يؤكد الكاتب الصحفي اللبناني، طلال سلمان، رئيس تحرير صحيفة السفير، أن الوطن العربي، بمختلف أقطاره، يعيش سلسلة من الأزمات الاقتصادية والأزمات السياسية التي لا تنتهي، وتستوى في ذلك الدول ذات الأنظمة الملكية والإماراتية ذات المداخيل الأسطورية، أو الدول ذات الأنظمة الجمهورية كالعراق ومصر وسوريا، وإن اختلفت الأسباب فيها عن دول النفط..
ويشير سلمان، في مقاله المنشور اليوم الأربعاء بصحيفة السفير، إلى أن الأزمة الحقيقية، التي تقيد الأمة العربية، هي أن «الوطن العربي الكبير» بمختلف أقطاره، شرقا وغربا، شمالا وجنوبا، يخضع لوصاية دولية متعددة الهوية تشمل الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الروسي وإسرائيل، مع حصص محددة ومحدودة لكل من ألمانيا الاتحادية وبريطانيا وفرنسا… إلخ.
وأوضح أن القواعد العسكرية ليست هي الشكل الوحيد للسيطرة الأجنبية على هذا البلد العربي أو ذاك، علما بأن هذه القواعد موجودة بشكل أو بآخر، وهي تمثل نوعا من الوصاية، بل هناك، أولا وأساسا، الاقتصاد الذي يتقدم على العسكر في هذا المجال، أوليس الدولار هو «السيد» في أربع رياح الأرض العربية؟
نص المقال:
يخضع «الوطن العربى الكبير» بمختلف أقطاره، شرقا وغربا، شمالا وجنوبا، لوصاية دولية متعددة الهوية تشمل الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الروسى وإسرائيل، مع حصص محددة ومحدودة لكل من ألمانيا الاتحادية وبريطانيا وفرنسا… إلخ.
ليست القواعد العسكرية هى الشكل الوحيد للسيطرة الأجنبية على هذا البلد العربى أو ذاك، علما بأن هذه القواعد موجودة بشكل أو بآخر وهى تمثل نوعا من الوصاية، بل هناك، أولا وأساسا، الاقتصاد الذى يتقدم على العسكر فى هذا المجال. أوليس الدولار هو «السيد» فى أربع رياح الأرض العربية؟!
يمكن أن نجد أسبابا تخفيفية كمثل القول إن الدولار يسيطر على اقتصاديات الكون، ومن الطبيعى أن تكون له السيطرة على بلاد محدودة الدخل (أو مضيعة الدخل) مثل البلاد العربية، لا فرق هنا بين الدول الغنية بمواردها التى جاءتها كهبة قدرية (النفط والغاز) والدول الفقيرة التى ضنت عليها الطبيعة بمثل هذه الموارد.
لكن هذا الواقع لا يمكن أن يخفى حقيقة أن البلاد العربية الغنية بمواردها الطبيعية، كمثل السعودية، ليست بأفضل حال من الدول الفقيرة، إذا ما أخذنا بعين الاعتبار مستوى حياة «الشعب»، أى الناس جميعا فيها،
وليس فقط الأسرة الحاكمة وملحقاتها من المنتفعين من «الشرهات» و«العطايا»، وهى نوع من الرشوة توزع على النافذين من شيوخ القبائل والوجاهات المحلية و«عيون الدولة» فى مختلف أرجائها.
وها هى الكويت التى أثبتت أسرتها الحاكمة أنها الأبعد نظرا من مثيلاتها فى أقطار الخليج، تمد يدها إلى «صندوق الأجيال» الذى أنشأته قبل نحو نصف قرن، تحوطا واستعدادا لظروف طارئة قد تتسبب فى وقف تدفق النفط أو قد تتسبب فى خفض مفاجئ لأسعاره، كالذى حدث قبل فترة وجيزة، مع احتمال أن تتدهور قيمة «الذهب الأسود» أكثر فأكثر.
بل إن «الثورة الإصلاحية» التى بشّر بها ولى ولى العهد السعودى الأمير محمد بن سلمان، قد تضمنت فيما تضمنته، جباية الضرائب، وربط الأجر بالإنتاج، وإعادة سعودة الشركات السعودية الكبرى، لا سيما تلك العاملة فى مجال الخدمات، وهى سعودية أصلا، ولكن القرار الجديد يخضعها لسيطرة «مشروع الملك الجديد» ــ مؤسسات بن لادن، على سبيل المثال.
هذا يعنى أن «الثورة الإصلاحية» ستبدل جذريا فى العلاقات بين«الدولة»، وهى هى الأسرة الحاكمة، وبين الرعايا الذين ينقسمون، فى عين«النظام» إلى «موالين مخلصين» كانوا ينالون مكافآت على ولائهم وليس على دورهم فى الإنتاج، وإلى «معارضين» و«مشاغبين» حتى لو كانوا «صامتين» يسعون إلى رزقهم فى العمل الحر، غالبا، ولا ينتظرون رعاية أو دعما من السلطة، ولا يطلبون إلا الأمان..
حتى فى دولة الإمارات يتحدثون عن ضيق وعن أزمة اقتصادية طارئة سببها المباشر التورط فى الحرب السعودية على اليمن، بكلفتها التى فاقت التوقعات، والتى يفاقم منها أنها بلا أفق، إذ لا أحد يمكنه التكهن بالمدى الزمنى الذى قد تستغرقه هذه الحرب العبثية وبالتالى بكلفتها المفتوحة..
فأما العراق فأوضاعه الاقتصادية فضائحية: ذلك أن الخزينة العامة منهوبة، والعجز يتفاقم مهددا بنتائج كارثية. فى الوقت ذاته فإن الحرب المفتوحة على «داعش» تكبّد الدولة خسائر هائلة، كما تمكن لعودة الهيمنة الأجنبية من باب الاقتصاد فضلا عن الأحلاف العسكرية… وكل ذلك تسبب فى انهيار ذريع للعملة الوطنية فى أرض السواد التى كانت موازنتها تقارب موازنات دول متقدمة.
ثم إن المسألة الكردية تفاقم مخاطر الأزمة المالية.. فالإقليم الكردى ينال موازنته من الحكومة المركزية، لكنه يبيع النفط المستخرج من أرض الإقليم، وكذلك من خارج هذه الأرض، ثم يحتفظ بالناتج بذريعة أن ثمة إشكالات سياسية وأمنية مع الحكم فى بغداد لابد أن تحل أولا، ثم يمكن إجراء المقاصة بين«الدولتين»!..
فإذا ما وصلنا إلى سوريا تبدت الكارثة الاقتصادية، كوجه آخر للحرب فى سوريا وعليها، فى حجمها الطبيعى: نصف البلاد، بل أكثر، خارج سيطرة النظام، وقوى المعارضة المسلحة، وبالذات «داعش» و«النصرة» تسيطر على مناطق عدة من بينها مواقع استخراج النفط والغاز. ومعروف أن تركيا كانت تشترى من «داعش» ما تستولى عليه من النفط السورى بأبخس الأسعار. وصحيح أن سوريا كانت دولة فقيرة، قياسا إلى جوارها الغنى بالذهب الأسود (العراق وما بعده السعودية وأقطار الخليج)، لكن الشعب السورى كان يأكل ويسكن ويتعلم ويتطبب ويحصل على الدواء والعديد من الخدمات الاجتماعية مجانا أو بسعر رمزى.
لا ضرورة للحديث عن ليبيا بشعبها الممزق ودولتها التى «ذهبت ولم تعد»، لكن تبقى الإشارة ضرورية إلى أن نفطها الغزير يخضع لعملية نهب منظم، تشارك فيه مجموعات مسلحة متعدّدة الولاء والتبعية.. وبالتأكيد فإن تنظيم «داعش» يحصل على حصته من الإيرادات المنهوبة فى هذه البلاد البلا دولة، فى حين تحصل عصابات مسلحة أخرى من «رسوم المغادرة» التى تفرض على الهاربين من جحيم الحرب (الليبيين)، ومن جحيم الفقر (العديد من رعايا بعض الدول الإفريقية المنسية والتى ابتدعت من دون أن تكون لها موارد توفر لها شروط البقاء..).
أما الجزائر التى كان يفترض أن تكون فى نادى الدول الغنية نتيجة لدخلها الممتاز من النفط والغاز، فإنها تعانى أزمة اقتصادية يختلط بين أسبابها «السياسى» بـ«الإدارى»، فإذا شعبها فى ضيق شديد يدفعه إلى الهجرة إلى بلاد مستعمره السابق الذى أباد منه أكثر من مليون شهيد خلال حقبة استعماره التى امتدت مائة وخمسين سنة، أى فرنسا، حيث يعيش المهاجرون فى ظروف بائسة، مكدسين فى الأحياء العشوائية وسط الفقر والإهمال.
فإذا ما وصلنا إلى مصر فيمكن الاكتفاء بما تنشره الصحف من تصريحات للمسئولين، وما يصدر من تعاميم عن البنك المركزى، للتدليل على عمق الأزمة الاقتصادية التى تعيشها والتى لم تنفع «الهبات» والقروض ومشاريع الاستثمار التى تعهدت بتنفيذها بعض أقطار الجزيرة والخليج، فى مساعدة الحكومة على تخطيها، وإن ظل رهان الحكومة قائما على مجموعة من القروض التى قد تقدمها المؤسسات الدولية، أمريكية وأوروبية، وبشروط قاسية، سبق أن عانت منها دول كثيرة أجبرتها حاجتها إلى طلبها وتحمل كلفتها العالية والتى أثبتت فى حالات عديدة أنها قد تسكن الوجع، ولكنها لا تشفى العليل.
باختصار، ومن دون خوف من الخطل، يمكن القول إن الوطن العربى، بمختلف أقطاره، يعيش سلسلة من الأزمات الاقتصادية ولادة الأزمات السياسية التى لا تنتهى.. تستوى فى ذلك الدول ذات الأنظمة الملكية والإماراتية ذات المداخيل الأسطورية التى تأتيها من دون تعب فى الجزيرة والخليج وبعض المغرب العربى، أو الدول ذات الأنظمة الجمهورية كالعراق ومصر وسوريا، وإن اختلفت الأسباب فيها عن دول النفط..
يبقى لبنان الذى يمكن الحديث معه وفيه عن أعجوبة اقتصادية ــ اجتماعية لا مثيل لها ولا سابقة: فهذا البلد الجميل الذى يكاد يكون بلا دولة، والذى تفوح روائح الفضائح فيه من مختلف مواقع الإنتاج، والذى يبيع فيه النفط قبل اكتشافه والغاز بعدما سيطر العدو الإسرائيلى على الحقل المؤكد اختزانه كميات محترمة منه والذى يمتد بين الساحل الفلسطينى مقابل حيفا فى اتجاه الحدود اللبنانية… ثم أخذ يساوم الدولة اللبنانية على شروط الاستثمار مستعينا ببعض السماسرة أصحاب الخبرة وبعض المسئولين الشرهين إلى المال العام..
هذا البلد الجميل ينسى أهله أو يتناسون واقع دولتهم المتهالكة، وينصرفون ليلا إلى التوزع بين مختلف
المصايف والقرى الجميلة، حيث يقام أكثر من ثلاثين مهرجانا فنيا، تشارك فيها فرق راقصة دولية السمعة، فضلا عن الفرق اللبنانية، إضافة إلى أكثر من مائة مطرب ومطربة يطرزون الليل بأصواتهم الجميلة..
يعيش اللبنانيون على طريقة: اليوم خمر وغدا أمر… وهذا يريحهم، بل ويجلب لهم حسد الأشقاء الغارقين فى بؤس أيامهم الدموية.
أما الوصاية على لبنان فدائمة وثابتة وإن تعددت جنسية الأوصياء.
(الغد العربي)