مكاشفة

- ‎فيكتابات

دعونا نكون في منتهى الوضوح، منتهى المكاشفة. الحوثيون في اليمن هم السبب الأكبر لما جرى في البلاد من كوارث. هذا ليس تحاملاً عليهم، لسبب بسيط وهو أنهم بالفعل من جلبوا الكارثة على اليمنيين، وهذا ـ أيضاً – لا يعني أن غيرهم ليس مسؤولاً، بل إننا وصلنا إلى هنا بفعل تراكم سياسات خاطئة توجت بالعصر الحوثي، عصر الكارثة الوطنية الأقسى في تاريخ اليمن.
والمشكلة أن الحوثيين مع كل هذه الكوارث التي جلبوها يتصرفون وكأنهم «المسيح المخلص»، الذي يبشر اليمنيين بملكوت السماء.
دعونا نبدأ حكايتنا: يعرف اليمنيون جميعاً أن النخب السياسية خرجت من مؤتمر الحوار الوطني في يناير 2014، وقد اتفقت على تفاصيل التفاصيل: من شكل الدولة، ونوع النظام السياسي، وعلاقة المركز بالأقاليم، وتوزيع السلطة والثروة، وغير تلك من القضايا. لم تعد أمام اليمنيين حينها إلا مسألتان: الاستفتاء على الدستور، ومن ثم الذهاب إلى الانتخابات الرئاسية والبرلمانية.
أعد الدستور من قبل لجنة وطنية، مدعومة بخبرات دولية، ومستلهمة مخرجات الحوار الوطني الذي وافقت عليه الأطراف السياسية بمن في ذلك الحوثيون والتيار التابع للرئيس السابق علي عبدالله صالح في المؤتمر الشعبي العام، وفي الليلة التي ذهب رئيس مكتب رئاسة الجمهورية حينها، الدكتور أحمد عوض بن مبارك لمقابلة الرئيس اليمني عبدربه منصور هادي لتسليمه مسودة الدستور لإحالتها لمجلس النواب لمناقشتها، ومن ثم إحالتها للشعب للاستفتاء، في تلك الليلة خطف الحوثيون بن مبارك ومعه المسودة، وبدأ مسلسل الرعب المعروف الذي لا تزال حلقاته تتوالى. دعونا نكون واضحين أكثر الذين رفضوا الدستور رفضوه لأنه أقر فكرة «الأقاليم»، هذه هي الفكرة التي فجرت الصراع كله. لماذا؟ لأن «القوى التقليدية» التي أصبح الحوثيون ممثلين لها – في المركز – لا تريد هذا النظام الذي يمكن أن يعطي الحق للأطراف أن تقتسم السلطة والثروة ضمن نظام فيدرالي. تحارب تلك القوى «الفيدرالية» تحت مسمى الدفاع عن الوحدة الوطنية. وكما رفعت تلك القوى شعار «الوحدة أو الموت»، لغرض بسط النفوذ والسيطرة، ونهب ثروات الأطراف في الجنوب، رفضت كذلك النظام الفيدرالي، باسم الدفاع عن وحدة البلاد، بحجة أنه يمهد لتقسيم البلاد. والمسألة ليس لها علاقة بالوحدة، على الإطلاق، ولكن للأمر علاقة واضحة بحب الاستحواذ على السلطة والثروة، باسم الوحدة التي قتلوها في نفوس الكثير من اليمنيين الجنوبيين الذين أصبح بعضهم للأسف ينكر «يمنيته»، في مفارقة عجيبة لأن تسمية اليمن تعني الجنوب، وعلى ذلك فالجنوب هو أساس اليمن، والجنوبيون أحق بالتسمية اليمنية من غيرهم، كما أن قبائل الجنوب حميرية الانتماء، إذا ما وضعنا «اليمننة» في إطارها العصبوي.
على كلٍ الحديث عن «التسلط المركزي»، لا يعني المواطنين في المركز، ولكنه يعني القوى التي جعلت المواطنين في المركز والأطراف بلا ثروة، ولا سلطة لتستأثر هي بها على حساب عامة اليمنيين، في المركز والأطراف، بل إن أرياف المركز ربما عدت من ضمن أكثر مناطق البلاد فقراً في الخدمات التربوية والصحية والاجتماعية الأخرى. ولكن «القوى التقليدية»، التي أوهمنا الحوثيون بأنهم يحاربونها، والتي أصبحوا في صدارتها اليوم، تلك القوى وظفت الكثير من منسوب الفقر والجهل الذي يعانيه اليمنيون في تلك المناطق لصالح التجييش العصبوي والجغرافي والطائفي المقيت.
هذه هي قصة الحرب باختصار. دولة عميقة لا تريد أن تتغير، وقوى متنفذة لا تريد أن يشاركها أحد في السلطة، وإذا وافقت على شراكة معينة، فإنما هي شراكة شكلية، الغرض هو ذات الغرض الذي تؤديه مساحيق التجميل التي تعطي لبعض الوجوه رونقاً مختلفاً. كنا إذن – على بعد خطوتين من إنجاز عملية التحول السياسي السلمي، خطوتين فقط: الاستفتاء على الدستور، والانتخابات.
الدستور اختطفه الحوثيون، والانتخابات غابت، وحضرت الحرب بكل تفاصيلها.
سيقول قائل إن الحوثيين كانت لهم ملاحظات على الدستور، وعلى حدود الأقاليم، وهذا صحيح، لكن هذه الملاحظات لم تكن السبب الحقيقي وراء هدم المعبد على من فيه، ولأن هذه الملاحظات كانت قابلة للنقاش، وكان يمكن أن تعدل. السبب الحقيقي كان رفض الدولة العميقة التي بات الحوثيون مظهرها الأبرز اليوم، لقضية أن تكون هناك شراكة حقيقية في السلطة والثروة على أساس من الديمقراطية السياسية، والعدالة الاجتماعية. وسيقول قائل: وماذا عن بقية الأطراف؟ هل كانت أحزاب اللقاء المشترك بريئة من عدوى الصراع على السلطة؟ والجواب: بالطبع لا. فإن ما جرى منذ 2011 وقبله، وإلى الآن هو في وجه من الوجوه ضرب من الصراع السياسي المحكوم بمصالح، بين نخب سياسية كانت في السلطة وحولها منذ أكثر من خمسين عاماً في البلاد، وتم توظيف كل الإمكانات والشعارات في ذلك الصراع، ومن أكثر ما وظف في هذا الخصوص: الشعارات الدينية والوطنية، كما هو معروف.
صراع الناس منذ القدم هو حول الثروة والسلطة، ولكن هذا الصراع يغلف تارة باسم الدين، وأخرى باسم الوطن، وثالثة باسم القومية والتاريخ. وما لم يتم التوافق على وسائل معينة للوصول إلى السلطة، وتقاسم الثروة بشكل عادل، فإن الحروب ستستمر باسم الدفاع عن الوطن، والدفاع عن الدين، والدفاع عن الحسين وآل البيت، وغير تلك من الأسطوانات التي مررت من تحتها أخطر المشاريع المناوئة لمصالح الأوطان، والأديان، والحسن والحسين، وآل البيت جميعاً.
واليوم واليمنيون مقدمون على جولة أخرى من المفاوضات عليهم وحدهم أن يقرروا ما إذا كانوا يريدون أن تكون بلادهم ملعباً للتجاذبات الدولية، وأن يدخلوا مرحلة الحرب المنسية التي لا يهتم بها أحد إلا إذا تعدى ضررها حدود اليمن الطبيعية، أم أن أهل البلاد سيصلون إلى مرحلة ما بعد الشعار، ما بعد الخديعة الكبرى، والكذبة الكبرى، التي وظفت فيها الدعايات الوطنية والدينية لمصالح فاسدين ليس لهم علاقة بالقيم الدينية ولا المصالح الوطنية.
٭كاتب يمني من أسرة «القدس العربي»