ليست اليمن استثناء في ما جرى ويجري فيها من صراعات سياسية وحروب دامية، غير أن ما تختزنه الذاكرة اليمنية الجمعية عن جذر الصراع يتجلى بكل وضوح في عقدة تعرف بـ”الهضبة”، وهي المناطق الواقعة في شمال الشمال، والمحاطة قبلية معقدة تختلف عن بقية اليمنيين في كونها تعتنق المذهب الزيدي (الشيعي) مقابل اعتناق غالبية اليمنيين للمذهب السني الشافعي، ويرى قاطنو الهضبة – وهو ما كان يراه أسلافهم قبلهم- أن حكم اليمن والسيطرة على ثرواته وإدارة شئونه حق حصري لهم دون غيرهم، وما على البقية إلا الانصياع لهذه الحقيقة والقبول بها طوعا أو كرها، وإن من يرفضها يعتبر في نظرهم عدوا يجب قتاله والحرب عليه، العمل على تصفيته والنيل منه والتنكيل به، لا بوصفه خصما ينازع الحكام المتسلطين الحق في السلطة، بل باعتباره “كافرا” يرفض الحق الإلهي لمن يصفون أنفسهم بـ”آل البيت”، الأوصياء على الدين والدنيا حتى تقوم الساعة.
ويعتقد بعض المتابعين للشأن اليمني أن ما حدث مؤخرا من انقلاب على الشرعية المعترف بها داخليا وخارجيا، مجرد محاولة يائسة من قبل الرئيس السابق وميليشيا الحوثي للعودة إلى الحكم بالخديعة والاحتيال ونسف كل الاتفاقيات والمعاهدات التي حظيت بالقبول والموافقة والرعاية الإقليمية والدولية، وفي مقدمتها المبادرة الخليجية وآليتها التنفيذية المزمنة ونتائج مؤتمر الحوار الوطني وقرارات مجلس الأمن ذات الصلة، وهذا صحيح إلى حد كبير، بيد أنه يجب أن لا يفصل عن السياق التاريخي للصراعات والحروب التي ظلت تنهش البلد من منذ مئات السنين، ومضمونها أن ثمة من يرى أن الحكم حق له بموجب تفويض ديني حصل عليه قبل ألف وأربعمائة سنة، وهو ما يرفضه الشرع الصحيح والعقل السليم.
وقد تعززت هذه النظرة عقب سيطرة “الزيدية السياسية” ممثلة بأسرة يحيى بن الحسين الذي قدم إلى اليمن أواخر القرن الثالث الهجري/التاسع الميلادي تحت لافتة الإصلاح بين القبائل، ومنذ ذلكم التاريخ ظلت هذه الطائفة تشن حروبها هجوما على اليمنيين في مختلف المناطق، ودفاعا عن حق مزعوم. وتظافر لدى المتعاقبين على سفوح الهضبة عوامل عدة تدعم ادعاءهم أحقية الملك والزعامة والوصاية، منها انتماء الفئة القابضة على النفوذ إلى بيت النبي الكريم، وهو الذي – حسب رأيهم واعتقادهم- منحهم حقا أبديا في السلطة المطلقة على شئون الناس الدينية والدنيوية، كما أنهم يرون أنفسهم أحق بغيرهم بسبب القوة والمنعة في الكتلة البشرية المحيطة بهم من خلال أكبر القبائل اليمنية وأقواها وأقدرها على حمل السلاح وخوض الحروب والعيش وسط نيرانها، مقابل محافظات ومدن وسكان يؤثرون السلام والتعايش ولا يرون في حمل السلاح ما يبعث على الفخر، وساعدهم في المرحلة الراهنة حصولهم على دعم إيراني بلا حدود يشمل السلاح والخبراء وخلايا التجسس والتخريب والتدمير، بعد ما وجدت طهران في ميليشيا الحوثيين ضالتها فمن خلال تلك الميليشيا الخارجة عن النظام والقانون سيتمكن الإيرانيون من إسقاط العاصمة العربية الرابعة في قبضتهم، ويصبحوا هم سلاطين البر والبحر كما قال مرجعياتهم.
والحقيقة أن من يقف مليا أمام حوادث التاريخ لن يستغرب وهو يرى ويشاهد الجرائم التي ترتكبها ترتكبها ميليشيا الحوثي وحلفائها من قتل للمدنيين وتدمير للبلد وإحراق للأخضر واليابس وانتقام وحصار يطال كل شيء، لأن في جعبة الماضي ما يفيد أن ما يحصل اليوم ليس إلا نسخة لما فعله أجدادهم في مختلف أنحاء اليمن، وفي جميع مراحل الصراع الذي ما هدأ يوما إلا ليشتعل من جديد، ورحم الله الشهيد/ محمد الزبيري الذي ناهض الحكم العنصري الإمامي سنوات طويلة، وبات يطلق عليه “أبو الأحرار اليمنيين”، حينما قال:
“وأنتمُ طبعةُ للظلم ثانيةُ تداركت كل ما قد أهلموا ونسوا” ومما سجلته المصادر التاريخية أن الإمام عبدالله بن حمزه، (1166: 1217م) أحد أسلافهم المشهورين في إحدى معاركه قتل عددا كبيرا من خصومه حتى عُد أكبر سفاح في تاريخ اليمن، وعندما سئل عن ذلك قال: إن جدي (الإمام علي بن أبي طالب) قتل في صفين ثلاثين ألفا بينهم صحابة شهدوا بدرا، ولن يحاسبه الله، فكيف يحاسبني على قتل هؤلاء الأوباش؟.
كما أن إماما آخر هو المتوكل على الله إسماعيل (1610: 1676م)، بعدما فرغ من حروبه الدموية قام بنهب أموال المواطنين ومزارعهم، وقال مقولته المشهورة: لن يحاسبني الله عما أخذت من أموالهم ولكن على ما أبقيت في أيديهم.
وهناك كثير من الحوادث والوقائع التي امتلأت بها مراجع التاريخ وذاكرة اليمنيين وجميعها تقود إلى نتيجة واحدة، مفادها أن هذه الفئة لا ترى
نفسها إلا حاكمة متحكمة ومالكة لها الأمر والنهي، ومن يعارض فكرها فهو يستحق أقسى وأقصى عقوبة، والاتهامات بحقه جاهزة ويسهل تكييفها وتلفيقها مع حرصهم على مراعاة ظروف الزمان والمكان في اختيار التهم، فهذه الفئة مثلا كانت تطلق على خصومها في الماضي “كفار”، و”مرتدين”، و”نواصب”، بينما تتهم خصومها في الوقت الراهن بأنهم “تكفيريون” و”قاعدة” “دواعش”، ففي الماضي كان الخطاب موجها لبسطاء الناس باستغلال عاطفتهم الدينية، أما اليوم فإن إطلاق تهمة “داعشي” و”إرهابي” يعني الحصول على تعاطف ودعم خارجي من المجتمع الدولي الذي يرى في الإرهاب آفة عالمية يجب الخلاص منها.
والخلاصة أنه ما كان لهذا الجنون الذي يزيد عمره عن ألف سنة أن يتوقف لولم يواجَه بـ”عاصفة حزم” حاسمة وقادرة على التخاطب معه باللغة الوحيدة التي يفهمها، وهو ما يقوم به التحالف العربي بقيادة المملكة العربية السعودية ومشاركة فاعلة من الأشقاء في الخليج العربي ودول عربية وإسلامية وتوافق دولي هدفه القضاء على التمرد المسلح. وهذا الردع الحازم والحاسم الذي يشكل نقطة تحول بارزة في التاريخ المعاصر كفيل – كما يرى كثيرون- بأن يقود اليمن واليمنيين إلى بر الأمان من خلال إقامة العلاقات بين مختلف المكونات اليمنية على أساس الشراكة والحوار والتوافق، وليس تطبيق قانون الغاب وسيطرة العصابات المسلحة.