بداية لابد من الاقرار بأن عمل قراءة لهذا الخطاب لم تكن بالأمر الهين، حيث يجد المستمع أو القارئ للخطاب نفسه أمام منظومة متكاملة الأوجه لمنهج متعدد المسارات والاشارات والمناشدات، تمكن فيه الأخ النائب من جعل مناسبة ذكرى ثورة 14 أكتوبر المجيدة منطلقا ومحورا لتغطية كل جوانب القضية الوطنية الراهنة بعمقها التاريخي وحضورها الواقعي وآثارها المستقبلية، مخاطبا القاعدة العريضة من أبناء شعبنا وقواه الثورية التحررية في كل انحاء الوطن، ومخاطبا كل الفاعلين في عملية الكفاح الوطني من الأطراف والقوى المحلية، ومخاطبا القوى الاقليمية أو الدولية، الصديقة والعدوة، مشيدا بالحلفاء الفعليين ومناشدا للحلفاء المحتملين بخطاب احتضاني رصين، وكان الخطاب – في فهمي الشخصي- كثيرا ما يقول شيئا وهو يقصد به أشياء أخرى أيضا تفهم بالقياس والمقارنة أو تفهم بالنتيجة، وفي هذا الصدد يمكن القول أن هناك مجموعة من المحطات التي يمكن التوقف عندها على نحو ما يلي:
في فاتحة الخطاب نجد أنه أشاد بمأرب إشادة منصفة، وأشار إلى كونها عاصمة التاريخ و و ، وأنها احتضنت كل اليمن وكل اليمنيين (بعد الانقلاب)، وهذا غالبا يقود ذهن المستمع والمتابع إلى الأوضاع السلبية التي تعيشها عدن التي تعتبر العاصمة المؤقتة والتي يفترض أيضا أن تحتضن كل اليمنيين بدون تمييز من باب أولى.
كانت الافتتاحية حصيفة ملتزمة بالبروتوكول في نقل تحيات الرئيس القائد للحضور وللشعب اليمني بمناسبة الذكرى ال(54) لثورة أكتوبر المجيدة، وهذه رسالة موفقة تؤكد على وحدة القيادة اليمنية في معركة استعادة الدولة.
أشاد الخطاب بثورة 14 أكتوبر ووصفها بأنها ” أحد أعظم ثورات التحرر في التاريخ الانساني، ووصف أبطالها “العظماء” بأنهم “رموز العصر ونجوم الزمن” إلخ، وكأنه في نظرته وتقييمه لأكتوبر العظيم ينطلق من كونه منجزا وطنيا، وبذلك يشجع و يقدم نموذجا للنظرة الوطنية المتجاوزة لكوابح الأيديلوجيا، ويرسل رسالة لأصحاب المناكفات الحزبية السنوية أن يكفي هذا، كما نلاحظ أن الخطاب يؤصل لسبتمبر وأكتوبر كمنجز جامع لفصائل العمل الوطني ولكل من شارك وساهم فيه من كل أبناء الوطن، مؤكدا على واحدية الثورة، ووطنية المنجز عوضا عن المناكفة والتقزيم له ومصادرته لصالح منطقة أو توجه أو فصيل معين وتخوين الآخر، مما يعكس عمقا في النظر، ومعرفة بإشكاليات الماضي التي لابد من التسامي فوقها من أجل اثراء الحاضر وبناء المستقبل.
في لفتة مهمة، ربط الخطاب برشاقة بالغة بين الإمامة والحوثية في سلوكهما الطبيعي الحتمي الذي يستلزم ويستدعي بطبيعته ثالوث الفقر والجهل والمرض أينما حل وأينما جثم، وأنه لا يمكنه الافتراق عن متلازماته الوجودية الحتمية متمثلة في العنف والحرق والتفجير والقتل للخصوم والتنكيل والسجن والتعذيب وتحول بناء المقابر إلى مشاريع استراتيجية مفتوحة، تماشيا مع تشجيع للإرهاب، ومسخ وتشويه للهوية الوطنية، والانتقام من كل منجزات الثورة اليمنية التي أعادت الاعتبار للذات الوطنية اليمنية.
كان الخطاب موفقا في معالجة رسائله للداخل وللمحتجين في الداخل المحتل، حيث تطرق لشكر المعلمين ودورهم في نشر نور الوعي الوطني وترسيخ الذات والهوية الوطنية، وهذه الإشارة تعتبر صياغة وتكتيكا ذكيا يشجع ويشير من طرف خفي إلى قضية المعلمين الذين يعلنون الاضراب، و يخوضون نضالا وطنيا نقابيا مطلبيا رائدا يمكن – إن تطور- أن يؤدي إلى ثورة كافة منتسبي الجهاز الإداري للدولة في المحافظات المحتلة.
ولتدعيم الفكرة السابقة، وتشجيع النضال المطلبي الشعبي في المحافظات المحتلة، تضمنت الكلمة الإشادة بعظمة تاريخ شعبنا في نشر مشاعل الحضارة والاسلام، وكذا الاشادة بكل أحرار اليمن من كل الأطياف والفئات العمرية، وصولا لإفراد إشادة خاصة بالمرأة اليمنية التي تقود المقاومة والنضال المطلبي في المناطق المحتلة سواء المعلمات أو أمهات المختطفين.
مجددا يؤكد الخطاب على واحدية الثورة اليمنية 26 سبتمبر و14 أكتوبر، واشتراكهما في جوهر أصيل هو حتمية الصراع ضد ثنائية الاستعمار والاستبداد ومخلفاتهما وآثارهما، وأن هذا الصراع المرير كان و مازال محتدما، وأن شعبنا بات على موعد محقق بإذن بالله مع انتصار إرادته المحقة.
ينتقل الخطاب إلى مستوى جديد، حيث يرسل رسائل مزدوجة للجيش الوطني والمقاومة الشعبية من جهة ، وإلى دول الإقليم في المحيط العربي، ونلاحظ فيما سبق أن الخطاب كان يخاطب “الحضور الكريم”، ولكنه فجأة ينتقل إلى خطاب مباشر ل”أبناء الجيش الوطني الأبي والمقاومة الشعبية”، وأنهم هم من يصنعون المستقبل بكفاحهم وتضحياتهم، وأن نضالاتهم هذه تأتي في سياق متصل مع نضالات آبائهم وأجدادهم الذين شيدوا الحضارات، وأنهم ” الجيش والمقاومة” هبوا ليصححوا غلطة جسيمة تسللت إلى حاضر اليمنيين و و و..، وليدمروا منصة العدوان والتآمر على الأشقاء والجزيرة العربية ومصالح الأمة الاستراتيجية، وفي هذا اشارة ضمنية إلى التهديد الاقليمي الذي تقوده إيران على الأمة من خلال أزلامها في اليمن وغيره، ويؤكد هذه الاشارة ما جاء نصا في فقرة سابقة تندد بـ “مشروع الحوثي الطائفي الايراني ” صراحة، ودور أبناء الجيش الوطني والمقاومة الشعبية الباسلة في كسر وتحطيم هذه المؤامرة، وما سيأتي في فقرات لاحقة.
محطة مهمة جدا، لم يغفل الخطاب عن أهمية توجيه خطاب تحفيزي تطميني تضمن توجيه دعوة مباشرة لـ “إخواننا وأبناءنا في المؤتمر الشعبي العام” مؤكدا “الذي نحن جزء منه” وهذه اشارة مهمة وخطاب تطميني احتضاني موفق (يذكر فيها النائب بقيامه بتجديد وتفعيل عضويته في المؤتمر الشعبي العام بعد توليه منصب نائب الرئيس)، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى لو توقفنا عند مضمون الدعوة سنجد أن تضمنت دعوة المؤتمريين إلى ” اليقظة والاصطفاف مع أبناء الشعب اليمني العظيم في محاربة” الميليشيات الحوثية واصفا إياها بأنها ” لا عهد لها ولا ميثاق والتي ألقت أحرار اليمن والكثير من قادة الجيش في غياهب السجون المظلمة وصادرت مؤسسات ومقدرات الدولة” ونهبت .. وأهانت وحرمت، و و و.
نلاحظ أن الخطاب يحمل رسائل تحفيزية واقعية تستند إلى حقائق عاشها المؤتمريون بأنفسهم، وتذكرهم بطريقة غير مباشرة بما ذاقته قياداتهم وقواعدهم من مرارة القمع والتجويع والسجن والحصار والإهانة والضرب وتكسير العظام، وبالتالي الخطاب للمؤتمريين : ها هو الباب مفتوح لكم للالتحاق ” بركب الشرعية “، ومثلهم ” من تبقى من القيادات العسكرية والأمنية والسياسية” محذرا من دعوات ومحاولات الميليشيات الطائفية “إنشاء جيش طائفي على غرار الحرس الثوري الإيراني”، بهدف تدير الجمهورية والجيش الوطني والحياة السياسية برمتها.
تمكن الخطاب أيضا من التأكيد على ضرورة وأهمية وحتمية التحالف العربي من أجل اليمن وأمن المنطقة والأمة العربية، وذلك من خلال خطاب محكم مزدوج للشعب اليمني أكد الخطاب على عمق اليمن الحضاري وأنه أصل العروبة، مؤكدا أن اليمن ستظل “عونا ومددا لكل أشقائها وخصوصا دول التحالف الذين ساندوها في محنتها وشدتها”، وفي هذا رسالة غير مباشرة لكل من صمت ووقف على الحياد بأن عروبتنا تحتم وقوف الجميع صفا واحدا في مواجهة الخطر الايراني.
الفقرة الأخيرة ( ما قبل الخاتمة )، حملت رسائل قوية للمجتمع الدولي والصحافة العالية، ودوائر التآمر التي تتخفى تارة تحت أقنعة الوساطات والمبادرات، وتتلبس تارة بلباس المنظمات الحقوقية لخلط الأوراق والتسوية بين طرفي الصراع( بين الشرعية والانقلاب، وبين الدولة والعصابة وبين القاتل والضحية، هذه الرسائل فحواها الدعوة الصريحة الناصعة “للسلام “.. ولكن أي سلام ؟ .. ” السلام الذي يحفظ لليمنيين كرامتهم ويعيد لهم دولتهم المنهوبة ويثبت نظامهم الجمهوري” وأن يكون السلام مبنيا ومؤسسا على المرجعيات الثلاث الوطنية والاقليمية والدولية التي لا تنازل عنها: مخرجات الحوار الوطني الشامل، والمبادرة الخليجية وآليتها التنفيذية، والقرارات الأممية، وعلى رأسها القرار(2216)،و”بما يحقق استعادة شرعية الشعب اليمني” مؤكدا (مرة أخرى) على وحدة القيادة والتفافها حول رمز الشرعية بقوله: الشرعية ” المجسدة في انتخاب فخامة الرئيس عبدربه منصور هادي رئيس الجمهورية القائد الأعلى للقوات المسلحة”.
وأخيرا كانت الخاتمة التي أكد فيها الشكر والتقدير لدول التحالف، وعلى رأسها الدول (النشطة في التحالف)، بقيادة المملكة العربية السعودية، مترحما على الشهداء، داعيا للشعب بالنصر والحرية والعزة، وللجرحى بالشفاء، وللأسرى والمعتقلين بالخلاص.