في الوقت الذي تحاول فيه دوائر إعلامية وسياسية مرتبطة بطهران في البلاد العربية الترويج إلى أن «المد الطائفي» الذي تشهده المنطقة جاء بفعل تأثير ما تسميه «المد الوهابي»، الذي تقصد به بالطبع مذاهب السنة المسلمين على اختلافها، فإن «الزلزال الطائفي» إن جاز التعبير لم تشهده المنطقة، إلا بعد قيام ثورة الخميني في إيران سنة 1979، وما صاحبها من شعارات طائفية، وما حملته من «حقد قومي وتاريخي»، وما جاء بعدها كتداعيات لهذه الثورة.
ونظرة بسيطة لتشابك العلاقات الطائفية المضطربة في المنطقة تؤكد ذلك.
في العراق كان العراقيون منسجمين طائفياً، إلى أن جاء حملة الفكر الخميني إلى بغداد سنة 2003 على ظهور الدبابات الأمريكية، محملين بحقد ثماني سنوات من الحرب العراقية الإيرانية، التي تجرع الخميني في نهايتها كأس السم، كما قال، وفي سوريا لم يعرف السوريون مصطلحات السنة والشيعة، إلا بعد أن بدأت طلائع الثورة الثقافية الإيرانية بمفهومها الطائفي تغزو عاصمة الأمويين، وبدأ الملالي يتقاطرون على المدن والأرياف السورية في حملة كبيرة، رصدت لها مبالغ ضخمة لـ»تشييع» السوريين، وفي مصر حاولت طهران عن طريق بعض شيوخ الطرق الصوفية الذين قربتهم منها كثيراً نشر أفكارها الطائفية في البلاد التي تضع إيران عينها عليها على أساس أنها ميراث «الفاطميين»، حيث ينسى الإيرانيون أن الفاطميين كانوا مجرد حكام، وأن الشعب كان على غير مذهبهم، وأنهم – أي الفاطميين – لم يجبروا الناس على مذهبهم، رغبة منهم في عدم استفزاز عموم المصريين، على عكس ما فعل الشاه إسماعيل الصفوي الذي فرض التشيع على «إيران السنية»، حتى ورد أنه قتل أمه لأنها رفضت اعتناق مذهبه.
في لبنان كان الشيعة اللبنانيون يتبعون دار الفتوى مع بقية المسلمين، إلى أن أرسلت إيران لهم أحد رجالها بعد أن أعدته جيداً، وهيأت له من يبشر به على أساس أنه أحد مفكري عصر النهضة العربية الإسلامية من أمثال جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده ورشيد رضا وغيرهم، ليقوم بتنفيذ مهمته بمساعدة الجميع، أرسلت طهران موسى الصدر الذي «سلخ» شيعة لبنان عن جسدهم اللبناني ليشكل بهم كياناً تنظيمياً وسياسياً وآيديولوجياً منفصلاً، ظل يتدرج في مدياته الطائفية إلى أن أفرز بجهد إيراني كبير وطويل وكيل إيران في لبنان «حزب الله»، الذي يعد الفرع اللبناني لمليشيات فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني، الذي موهت إيران على حقيقة أهدافه بتسميته المخاتلة «فيلق القدس»، للإيحاء بأنه معد لتحرير القدس من «الصهاينة»، قبل أن نراه يقاتل بوكلائه وعناصره في سوريا ولبنان والعراق واليمن، بدون أن يكون في نيته التوجه إلى المدينة التي سمي باسمها للمخادعة والتدليس.
الشيء ذاته يمكن أن يقال عن البحرين وغيرها من دول الخليج العربي، باستثناء عمان التي لم تحاول إيران أن تحرك فيها الورقة الطائفية، نظراً لنوع من العلاقات المتينة بين الدولتين، والتي تعول عليها إيران في إحداث مزيد من الاختراقات في الصف العربي.
وصلت آثار التدمير للبنية الاجتماعية والثقافية العربية إلى اليمن منذ فترة طويلة، حيث بدأ الشغل الإيراني – كالعادة – أكثر هدوءاً في البداية، إلى أن استعر في مطلع الألفية عندما أطَّرت إيران حسين الحوثي ليقود تنظيم «الشباب المؤمن» في محافظة صعدة اليمنية، الذي تحول إلى تنظيم «أنصار الله» الذي قام في اليمن بفظائع لا نبالغ إذا قلنا إنها توازي الفظائع التي ارتكبتها مليشيات حزب الله اللبناني في سوريا، ولا غرابة بالطبع في ذلك بما أن المعين الذي تشربت منه هذه المليشيات الطائفية واحد منبعه في طهران ومصباته في البلدان العربية المختلفة.
بالطبع ألسنة إيران الناطقة باللغة العربية كانت تصف الكتابات التي تحذر من الخطر الطائفي الإيراني بالتهويل، وأن هذه الكتابات تأتي لصرف الأنظار عن الخطر الحقيقي الذي يتهددنا من إسرائيل، وهذه مغالطة مكشوفة، لسببين: الأول أن الخطر الإيراني الآن بات مكشوفاً، ولم تعد طهران تستعمل التقية لإخفائه، والسبب الثاني أن إيران ليست في حالة عداء حقيقي مع تل أبيب، وإنما هذه إحدى حيل طهران للتغطية على العداء الحقيقي للعرب الذين يعدون أمام القوميين الفرس «أعراباً» قتلوا «رستم» وقضوا على حضارة كسرى، ويعدون في عين المتدين الفارسي «نواصب» قتلوا الحسين، فما للعرب بد من أن ينظر إليهم على أساس أنهم أعداء في الحالين.
بالمناسبة حاول ويحاول حائك السجاد بصبره ومهارته أن يمد خيوطه إلى المغرب العربي الكبير، وقد كان له دور كبير في المملكة المغربية، عن طريق بعض الخلايا الصوفية، قبل أن تتنبه الحكومة المغربية لهذا الدور، وتعلن قطع العلاقات مع طهران في حينه، وفي الجزائر يزور أمير موسوي عاصمة الثقافة العربية، ومدينة الثوار «قسنطينة»، ويدخل إلى نسيجها الثقافي باسم الأسابيع الثقافية الإيرانية، وهذه الأسابيع هي التقية التي تمارسها إيران في البداية، لتنكشف في النهاية عن سلخ لجزء من الجسد الوطني يكون تابعاً لطهران أكثر من ولائه لوطنه وأمته، وعلى من يقول بغير ذلك، أن يرى كيف عبثت جماعات طهران بأمن بلدانها وأضعفتها بصراعاتها ضد بقية المكونات لصالح نظام ولاية الفقيه في طهران.
والشيء ذاته فعلته طهران في السودان، وقد عرضت الحكومة الإيرانية على السودانيين ترميم بعض الزوايا والمزارات الصوفية في السودان، غير أن السودانيين رفضوا العرض الذي كان سينتهي إلى نوع من الشرخ الطائفي الذي تستغله طهران لتـــمزيق النسيج الاجتماعي العربي في البلاد.
قد يقول قائل إن ما تفعله إيران يأتي في إطار «حرية الفكر والرأي والحرية الدينية»، وهذه مغالطة واضحة، لأن إيران لا تسمح بمثل هذه الحرية، حيث لا يوجد مسجد واحد للسنة في طهران، ويمنع من الدعوة للمذاهب السنية وتوسيعها، ويعاني السنة الأمرين هناك، أما عرب الأحواز الشيعة، فلا يحق لهم تسمية أولادهم بأسماء عربية غير ما هو موجود في قوائم أعدها لهم النظام للاختيار منها، كما لا يحق لهم أن يتزيوا بالأزياء العربية في الدوائر الرسمية في مدنهم العربية في الأحواز. ثم أن إيران لا تسعى من خلال عملها في البلاد العربية إلى نشر مبادئ حرية الفكر والتدين، ولكن لإحداث شروخ طائفية تدخل العرب في الفتنة والاقتتال، وهذا ما يحدث حالياً كما خططت طهران.
والغريب أن الكثير من «كتبة إيران» العرب يقولون في تبرير كل تلك الجرائم السياسية والأخلاقية والاجتماعية والعسكرية، «حلال على الشاطر»، وهم – في هذه الحال – أشبه برب منزل تسلل اللصوص إلى منزله، وعبثوا به، ثم عادوا وهاجموه جهاراً نهاراً ونهبوا محتوياته، وهو قائم لهم على الباب يحييهم ويقول «حلال على الشاطر».
هذا هو واقع الممارسات الإيـــــرانية في البلــــدان العربية، والخافيات أعظم بالطبع، لكن السؤال الذي يظل مطروحاً هو: أين المشروع العربي البديل، الذي يمكن أن يواجه كل هذه الخرائب والحرائق التي أحدثتها طهران في البلاد العربية.
ماذا فعلت إيران بأوطاننا؟
محمد جميح
No more posts
No more posts