كأنها تكافح من أجل البقاء في مواجهة الاندثار، تقف صناعة الفخار باليمن شاهدا على عصور تاريخية لعبت فيها دور البطولة في تشكيلات الأواني والتماثيل قبل حلول الماكينات التكنولوجية.
ولا تكاد تذكر صناعة الفخار اليمنية إلا مقرونة بمدن “حيس” و”زبيد” و”الجراحي” و”بيت الفقيه” في إقليم تهامة جنوب مدينة الحديدة، تليها عدة مناطق في محافظة حضرموت والعاصمة صنعاء.
ويقول الباحث عبدالسلام الحداد، مؤلف كتاب “مدينة حيس اليمنية؛ تاريخها وآثارها الدينية” إن مدينةَ حيس من أوائل المدن التي تخصصت في صناعة الفخار والأواني الخزفية، إذ كانت المورد الأساسي لما يحتاجه اليمن من هذه الأواني، نظرا لتوافر التربة الطينية الجيدة في وديان المدينة والأكاسيد المعدنية في الجبال الواقعة إلى شرقها.
ويصنع الفخار من التراب الأبيض والأسود والأحمر ويدخل قسم من الرمل في صناعتها إذ يتم نخل التراب ونقعه في أحواض بعدها يصول ويصفى ويجبل ليصبح عجينة جاهزة لصنع الأواني والأدوات الفخارية.
ويرسم الفخاريون بأناملهم تشكيلات فنية للأواني المستخدمة في الطعام والشراب والتماثيل والديكورات، ويزخرفونها بألوان زاهية، في محاولات دؤوبة للحفاظ على المهنة التاريخية من الاندثار.
وتواجه صناعة الفخار باليمن جملة من التحديات أبرزها الركود الشديد في رواجها جراء تدهور الأوضاع الاقتصادية والمعيشية لليمنيين طوال سنوات الحرب والحصار.
وتمتد صناعة الفخار في اليمن إلى الآلاف من السنين، إذ يعود تاريخها إلى عام 2600 قبل الميلاد، بحسب اكتشافات البعثة الإيطالية في المرتفعات الوسطى بالبلاد.
وفي منطقة مذبح بالعاصمة صنعاء، يقف الستيني صالح الزبيري داخل معمل صغير، حاملا على كاهله خبرة أكثر من 50 عاما في صناعة الفخار.
ويعد الزبيري من أقدم وأمهر الحرفيين اليمنيين في صناعة الفخار، كما يعتبرها مصدر دخله الوحيد وإرث أجداده الذي يأبى التنازل عنه تحت ضغوط الركود والتهديد بالاندثار.
ويقول الزبيري “نصنع جميع أشكال الأواني الخاصة بالطعام والشراب والطهي في الأفران وأحيانا التماثيل والتحف والديكورات”.
ويضيف “تمر الأيام دون بيع ما يكفي لدفع تكاليف المعمل من أجرة العمال وقيمة استئجار المكان، بسبب الركود التجاري وغزو الأواني البلاستيكية والمعدنية المستوردة من الخارج للأسواق اليمنية”.
وباتت الأواني الصينية منخفضة الأسعار محل إقبال كبير من قبل الناس، ولا يُلقون بالا لمواصفات ومعايير الجودة إلا القليل من كبار السن.
ويمضي قائلا “لا يوجد في هذه الصناعة سوى العناء واستمرارنا فيها من أجل الحفاظ عليها وعلى تراثها التاريخي من الانقراض.. أفنيت فيها 50 عاما من عمري دون أن أتمكن من بناء منزل لأولادي”.
والزبيري لا يبيع مصنوعات أخرى غير الفخار، ففي الغرفة الخلفية للمتجر خصص مكانا لصناعة الفخار التي تتم في المساء وينتهي منها صباحا وفي النهار يعمل في بيع تلك الأواني.ويختتم حديثه بالخوف على هذه المهنة من الاندثار “كنا نتعلم الحرفة عن طريق الوراثة، وبذلك تنتقل من جيل إلى جيل في الأسرة الواحدة، نبدأ بالمشاهدة ومساعدة الوالد في نقل الأواني الجاهزة لتوضع في مكان معين في الورشة لا تصله الشمس حتى تجف، ونبدأ أولى محاولاتنا ونحن أطفال بأن نقوم بالتوليف والتشطيب، وخلال تلك الفترة نتدرب على صنع وعمل النماذج الصغيرة مثل الفنجان والكأس والصحن، وبعد ذلك نبدأ التدرب على صنع النماذج الكبيرة، لكن اليوم لا أحد من الشباب يرغب في تعلم هذه الحرفة لأنها لا تؤمن المستقبل”.
عبدالله حسين تاجر فخار يأتي بهذه الأواني من منطقة المراوعة، لكنه يصطدم على الدوام بعدم إقبال الناس عليها، يقول “كنا في السابق نشتري كميات كبيرة من الأواني الفخارية ونبيع الكثير منها بسبب الإقبال المتزايد”.
ويضيف “هذه الأيام يقل الطلب على هذه الأواني”، وباستثناء دلات الماء يجد عبدالله صعوبة في تسويق بقية الأواني الفخارية لأن الناس كما يقول لم يعودوا يهتمون بقيمة هذه الأواني التي لها علاقة بالتاريخ اليمني.
عبدالله مستوعب جيدا للتسلسل الزمني لهذه الصناعة حتى اللحظة على اعتبار أن هذه الصناعة هي الوحيدة التي ربطت الماضي بالحاضر، وما عدا ذلك مجرد تدوينات قد تصدق في ما تصف وقد تخطئ في ما تقول تارة أخرى.
ويقول محمد الأدور، مشتر لأوان فخارية، إن اقتناء الأواني الفخارية يعد الأنسب بسبب نقص الغاز في اليمن، إضافة إلى طهي الطعام بشكل صحي وأكثر جودة في المذاق.
ويضيف الأدور “أنصح الجميع بشراء الأواني الفخارية للحفاظ على المهنة التاريخية من الاندثار في اليمن”.
وينتظر الحرفيون القلائل دعم هذه الصناعة وتمويلهاحتى تبقى قائمة ليتسنى تصنيعها بطرق أفضل وإدخال التحسينات عليها.