يروي الفيديو قصة الباكستانية ملالا يوسفزي، الحائزة على جائزة نوبل للسلام، التي نجت في سن الخامسة عشرة من إطلاق النار على رأسها على يد طالبان أثناء ركوبها إحدى الحافلات في عام 2012. تقول ملالا “أود إكمال تعليمي، وأرغب في أن أكون طبيبة”، متابعة أن طالبان تقذف الأسيد على وجوه البعض وتقتل آخرين، لكن “لا يمكنها إيقافي”.
لم يتأثر الفتى البالغ من العمر 15 عاماً بمقطع الفيديو الذي يحكي قصة ملالا والذي شاهده داخل معهد الدماغ والإبداع بجامعة جنوب كاليفورنيا، وجهه خالٍ من المشاعر وكتفاه متهدلتان. سأله الشخص المخول بعقد اللقاءات عما شعر به بعد هذا الفيديو، حسبما نشرت صحيفة Newsweek الأميركية.
هز كتفيه قائلاً “لا أعلم” لا شيء. استمر الباحث في حواره، سائلاً إياه عن الشخص الذي يريد أن يكونه حين يكبر.
أجاب “أريد أن أكون شخصاً لطيفاً”
“هل تريد الذهاب للجامعة؟”
“نعم”
“هل لديك خطط لما بعد الجامعة؟”
“لم أفكر في ذلك”
“ما هو نوع الوظيفة التي ترغب في الحصول عليها؟”
“لم أفكر في ذلك”
إنه واحد من 73 مراهقاً منخفضي الدخل تراقبهم عالمة الأعصاب في جامعة جنوب كاليفورنيا ماري هيلين إموردينو يانج، خلال دراسة امتدت لخمسة أعوام، صُممت لدراسة تأثير الثقافة، والعلاقات الأسرية، والتعرض للعنف وبعض العوامل الأخرى على شكل العقل البشري.
يشاهد المشاركون 40 مقطع فيديو يروي كلٌ منها قصة حقيقية على لسان صاحبها. اُختيرت بعض القصص، مثل قصة ملالا، لأنها مُلهمة ومؤثرة. يشاهد المراهقون بعض أجزاء من مقاطع الفيديو مرة أخرى بينما هم داخل جهاز الرنين المغناطيسي، حيث تُسجَّل استجابات الدماغ. بعد عامين، يتلقون الدعوة مرة أخرى للحضور إلى مختبر الدماغ والإبداع، وهو مركز هجين للتعلم والابتكار، يحتوي على جهاز للرنين المغناطيسي ومكاتب للاجتماعات وصالات لعرض الفن الحديث والصور الفوتوغرافية، بالإضافة إلى قاعات الأداء التي تقدم لقاءات أدبية وعروضاً علمية وحفلات للعزف على التشيلو. تُعاد الاختبارات مرة أخرى لتتبع التغييرات التي تجري بمرو الوقت.
تشير النتائج الأولية إلى اتجاه مثير للقلق: الأطفال الذين نشأوا بوجود مستويات مرتفعة من العنف في خلفية حياتهم، لديهم ضعف في الوصلات العصبية والتفاعل في أجزاء من الدماغ مثل المشاركة في الوعي والحكم والإدراك الأخلاقي والعاطفي، بناءً على نتائج الرنين المغناطيسي.
نتيجة مقلقة
يساهم بحث إموردينو يانج في حقل متنام يُدعى علم أعصاب الفقر. وعلى الرغم من أنه مازال معتمداً بشكل كبير على العلاقات المتبادلة بين أنماط ونماذج الدماغ وبين بيئات معينة، إلا أن البحث يشير إلى نتيجة مقلقة ألا وهي تأثير الفقر والأوضاع المصاحبة له، مثل العنف والضوضاء الزائدة وفوضى المنزل والتلوث وسوء التغذية والإساءة وبطالة الأهل، على تشكيل وتشذيب التفاعلات والاتصالات العصبية في الدماغ لدى صغار السن.
أدى تقريران مؤثران نُشرا مؤخراً إلى فتح الحوار العام حول هذا الأمر. إذ وجد أحد التقارير أن لدى الأطفال الفقراء قدراً أقل من المادة الرمادية، وهي أنسجة الدماغ المسؤولة عن دعم معالجة المعلومات والسلوك التنفيذي، في الحصين (المشارك في الذاكرة)، والفص الجبهي (المشارك في اتخاذ القرار وحل المشكلات والسيطرة على الانفعالات والحكم والسلوك الاجتماعي والعاطفي)، والفص الصدغي (المشارك في اللغة والمعالجة السمعية والبصرية والوعي الذاتي). ويُعد العمل المشترك لهذه المناطق الدماغية حاسماً في اتباع التعليمات والانتباه والتعلم بشكل عام، وهي بعض مفاتيح النجاح الأكاديمي.
فحصت الدراسة، الني نُشرت في الدورية العلمية JAMA Pediatrics في عام 2015، 389 شخصاً تتراوح أعمارهم بين 4 أعوام و22 عاماً. جاء ربع المشاركين من بيوت تقع تحت خط الفقر الفيدرالي (حوالي 24 ألف دولار كدخل سنوي لأسرة مكونة من 4 أفراد في عام 2016). زاد انخفاض المادة الرمادية لدى الأطفال القادمين من الخلفيات الأفقر وكانت نتائج اختباراتهم الموحدة هي الأقل.
أما الدراسة المفتاحية الأخرى، المنشورة في Nature Neuroscience في عام 2015 أيضاً، ففحصت 1099 شخصاً تتراوح أعمارهم بين 3 و20 عاماً، ووجدت أن أطفال الأسر الأفقر قد عانوا من انخفاض المنطقة السطحية للدماغ، مقارنة بالأطفال الذين تجني عائلاتهم 150 ألف دولار أو أكثر سنوياً.
يقول الدكتور جاك شونكوف، مدير مركز نمو الطفل في جامعة هارفارد، “عرفنا منذ وقتٍ طويل عن العلاقة بين اختلاف الطبقات الاجتماعية والنتائج التعليمية والصحية”.
لكن علم الأعصاب تمكن حالياً من الربط بين البيئة والسلوك والنشاط الدماغي، وهو ما قد يقود إلى تغييرات إصلاحية مذهلة في السياسات الاجتماعية والتعليمية، مثل إعادة النظر في البرامج التي تركز على تعلم القراءة والكتابة في وقت مبكر. وأضاف أن المناهج الجديدة يمكنها أن تركز على النمو الاجتماعي والعاطفي أيضاً، بما أن العلم قد أخبرنا حالياً بالعلاقات والتفاعلات مع البيئة وأثرها في تشكيل مناطق الدماغ المسؤولة عن السلوك (مثل القدرة على التركيز)، والتي يمكنها التأثير على الإنجاز الأكاديمي (مثل تعلم القراءة). وتابع شونكوف حديثه قائلاً “الآن نحن نحيا ثورةً في علم الأحياء”، وهي ثورة توفر لنا نتائجها الحديثة فهماً حقيقياً للتفاعل بين الطبيعة والتنشئة.
حالة دائمة من الكرّ والفر
حين تعود بذاكرتها إلى مدرستها المتوسطة في جنوب لوس أنجلوس، ترى ستيفاني فيرغارا البالغة من العمر 19 عاماً أجهزة الكشف عن المعادن والكلاب البوليسية وأعمال الشغب. أُغلقت مدرستها ذات مرة لمدة أسبوع، حيث لم يكن باستطاعة الأطفال ترك حرم المدرسة أو التجول بحرية في الممرات بسبب قلق المسؤولين من أنشطة العصابات التي تجري خارج أبواب المدرسة.
بينما تتذكر فانيسا (16 عاماً) شقيقة ستيفاني ذكريات أسوأ مثل سيرها مع إحدى صديقاتها إلى ملعب التربية البدنية وتعرضهما للاعتداء على يد 5 فتيات أخريات، ضربن صديقتها حتى نزفت لأنهن اعتقدن أنها تحاول “التظاهر بالصلابة” كما تروي فانيسا. لم تشعر أي من الشقيقتين بالأمان في تلك المدرسة. اعتاد الغرباء، من الكبار والأطفال، اقتحام المدرسة عبر قضبان النوافذ المحطمة. وتسكع أعضاء العصابات خارج المدرسة. وتابعت فانيسا “كانوا مسلحين دوماً. وكانوا ينتظرون خروج الأطفال”.
كانت المدرسة الثانوية أفضل، لكن ليس على الدوام. تتذكر فانيسا حادثة إغلاق المدرسة إثر إطلاق النار بالقرب منها. وُجِه جميع الطلاب إلى صالة التربية الرياضية بينما ركض أحد المسلحين عبر حرم المدرسة حاملاً سلاحه.
نشأت كلٌ من فانيسا وستيفاني في منزل بلغت مساحته 950 قدماً مربعاً، مع أخ وأخت آخرين. كان والداهما من المهاجرين، اللذين التقيا أثناء عملهما في أحد مصانع الخياطة واشتريا منزلهما في 1999 بعد أعوام من الادخار لأجل المقدم. وعلى الرغم من سيطرة 4 عصابات متنافسة على منطقتهم والمناطق المحيطة، إلا أنه على الأقل يقع منزلهما، كما تقول العائلة، على مسافة قريبة من مدارس متعددة.
في عام 2013 انضمت فيرغارا للمشاركين في دراسة إموردينو يانج، حيث شاهدت سلسلة مقاطع الفيديو وجرى فحص دماغها عن طريق الرنين المغناطيسي (تتذكر قصة الفتاة التي أُصيبت بالسرطان والتي حاولت جمع المال اللازم لعلاجها عن طريق كشك لبيع عصير الليمون). أثارت التجربة اهتمامها، وحين علمت أن إموردينو يانج توفر فرص للتدريب، سجلت اسمها، وحصلت على الوظيفة وساعدت في جمع المشاركين من حيها، حيث تعيش 43% من العائلات تحت خط الفقر (حوالي 24 ألف دولار سنوياً لعائلة مكونة من 4 أفراد في 2016، بحسب بيانات تعداد الولايات المتحدة).
عرفت فيرغارا، حتى قبل بداية عملها في المختبر، كيف ينظر سكان الأحياء الأكثر ثراءً إلى حياتها، ولماذا يهتم الباحثون بدراستها هي وزملائها، لكنها عرفت حين رأت نتائج الرنين المغناطيسي لزملائها بعد ذلك وحين فهمت أن تلك النتائج تُنبئ عن أمر مقلق أن “أدمغتنا لا تتطور بالفعل كأدمغة الذين يعيشون في مجتمعات أخرى”.
لم تكن فيرغارا قد علمت وقتها بالعلاقة المباشرة بين نظام استجابة الجسم للضغط وبين تطور الدماغ. والفقر هو وضع شديد التسبب بالضغط في الأصل. لطالما علمت الشقيقتان أن منطقتهما كانت إحدى البؤر الساخنة، ما يعني تزايد عنف العصابات في أنحائها. وعرفتا أي المناطق تسيطر عليها The Bloods أو Back Street Crip أو , PJ Watts Crips أو Main Street Crips أو Hoover Criminals. وعرفتا أيضاً أي رجال منطقتهما هم من رجال العصابات وأي من زملاء المدرسة الإعدادية هم من المنضمين حديثاً. لم تر فيرغارا أي شخص يتعرض لإطلاق النار، لكنها سمعت أصوات الرصاصات خارج غرفة نومها أكثر من بضع مرات.
وفقاً لإمورينو يانج فليس عليك أن ترى شخصاً يتعرض لإطلاق الرصاص لتتأثر بالعنف. حين تجري كل هذه الفوضى في الخلفية “فهي تخبر نظامك البيولوجي أنك تحيا في عالم اجتماعي مخيف. إنه مكان خطر، يمكن لأي شيء أن يحدث فيه. لا يمكنك الوثوق بأن الآخرين جيدون”. في هذا الوضع من الضغط، تتغير تراكيب الدماغ. تختلف الوصلات العصبية، وتتصرف الخلايا العصبية بشكل مختلف. تتتسبب هرمونات التوتر التي تصل للدماغ في نشاطه المفرط.
بالنسبة لمعظم الناس، يتسبب تعرضك لتهديد السلاح في تنشيط استجابة الكر والفر، وإفراز هرمونات الكورتيزول والأدرينالين، لبث الطاقة والقوة للعضلات. تُفرَز الناقلات العصبية مثل الأدرينالين والدوبامين والنورإيبينفرين في اللوزة المخية التي تحفز الدماغ لدفع القلب والرئتين للعمل والتنفس بشكل أسرع. تبلغ المشاعر والذكاء حالة التأهب القصوى، ويستعد الجسم للهرب أو للقتال حفاظاً على حياته. وهو وضع شاق وشديد الضغط، حللت إحدى دراسات كلية King’s في لندن 106 من ضحايا السطو ووجدت أن 33% منهم عانوا من اضطراب ما بعد الصدمة، بينما أقر 80% منهم بشعورهم بالخوف المفرط من الأشخاص الآخرين.
الآن تخيل عشرات المجرمين العنيفين يومياً. تخيل أن بإمكانهم الظهور من اللامكان لضربك، أو لسرقتك أو لاغتصابك أو حتى لقتلك. ستبقى هرمونات التوتر لديك في ارتفاع دائم، وبعد فترة لن يتمكن جسمك من تقليلها. سيعلق دماغك في حالة دائمة من الكرّ والفر، وهو ما يمثل ضغطاً مزمناً يعيق نمو الخلايا الجذعية والوصلات الدماغية والعصبية. يُجري مختبر إموردينو يانج تحليلات لاكتشاف إذا ما كان التعرض للعنف يعيق تطور قدرات المراهقين المسؤولة عن فعالية التخطط وتحديد الأهداف، واتخاذ الاختيارات الأخلاقية، الحفاظ على الاستقرار العاطفي. وتقول إموردينو يانج “نشاطهم الدماغي أقل نظاماً، وتطوراً وتنظيماً”.
يُرى ضررٌ مماثل نتيجة لفوضى العائلة وللتجاهل والإساءة. لا يكتفي هذا التأثير العصبي بالظهور في المراهقين والأطفال فقط، بل يظهر أيضاً في الرضع وحديثي الولادة. وجدت إحدى الدراسات التي أُجريت في جامعة ويسكنسون ماديسون على 77 طفلاً أن لدى الأطفال الذين تبلغ أعمارهم 5 أشهر، والقادمين من أسر منخفضة الدخل، مناطق أقل من المادة الرمادية في المناطق الأمامية والجدارية مقارنة بالرضع والأطفال القادمين من أسرٍ أكثر ثراءً. وأشارت هذه الدراسة، بجوار الأبحاث الأخرى على النشاط الدماغي للرضع، إلى أن هذه التأثيرات المبكرة للفقر قد تؤدي إلى إبطاء النمو الدماغي.
وحين يتعلق الأمر بتطور الدماغ، إذا بدأت متأخراً، فقد لا تلحق بالركب مطلقاً.
علم تحسين النسل الحديث
تثير عناوين أبحاث علم الأعصاب الحديثة فيما يخص هذه المسألة القلق، “كيف يعيق الفقر تطور أدمغة الأطفال”، “الفقر يتسبب في انكماش دماغ الأطفال منذ الولادة” و”لم يتخذ الفقراء قرارات سيئة؟”.
يرى شونكوف أن اللغة المُستخدَمة “خطيرة وتدفعنا لمنحنى زلق. قول (إننا نرى قدراً أقل من المادة الرمادية، ومساحة سطحية أقل) هو أمر مختلف عن استنتاج البعض بأن (دماغك تالف…). وهم يصم الناس دون وجه حق”. في غياب إطار واضح، قد تشعل الأبحاث حول أثر الفقر على الدماغ العديد من المعتقدات الخاطئة التي تنطوي على التفاوت العرقي في الذكاء أو الدونية المتأصلة للفقراء، كما قد تُستخدَم لتبرير العنصرية.
يقول ماثيو هوجهي، الأستاذ المشارك لعلم الاجتماع في جامعة كونيتيكت، “نحن معرضون لخطر أن تصبح هذه النتائج وقوداً لحركة جديدة لعلم تحسين النسل. استخدام عبارة “أدمغة الفقراء مختلفة” هو نهج شديد السهولة والتخويف، لكنه ببساطة خاطئ تماماً”.
صحيح أن متوسط فقر بعض الأقليات يزيد على المتوسط الأميركي “بقدر كبير”، بحسب مركز الفقر الوطني في جامعة ميتشيغان. في عام 2014، بلغ معدل الفقر الوطني 14.8% ، وفقاً لبيانات تعداد الولايات المتحدة، بلغ 26.2% بين الأفارقة الأميركيين و23.6% بين ذوي الأصول اللاتينية، بينما بلغ 10.1% بين البيض، و12% بين الأميركيين الآسيويين، وهو ما يثبت أن الفقر ليس موزعاً بالتساوي بين المجموعات العرقية.
التمييز ضد الأقليات
شباب الأقليات هم أكثر عرضة للفقر، وبالتالي أكثر عرضة لمواجهة تحديات النمو المعرفي التي كشف عنها العلم، ما يعني أن الحال قد ينتهي بهم لمجابهة عبء آخر، كما يرى دبليو. كارسون بايرد الأستاذ المساعد للدراسات الأفريقية بجامعة لويسفيل، ألا هو أنهم “أقل قدرة من نظرائهم البيض” وهو الاستنتاج المعتمد على هذه الدراسات والعناوين. النشأة وحدها كفرد من الأقلية الفقيرة في أميركا لا تجعل من أحد أكثر عرضة لتأثيرات التطور الدماغي، لكن الفقر وتبعاته، بالإضافة لمعاملة المجتمع للأقليات الفقيرة، قد يؤثر.
يمكن للتمييز ضد الأقليات، التي تحيا في بنايات متهالكة وغير آمنة، في الإسكان، ولسوء التغذية، والتعرض للتمييز العنصري الضمني من قبل المدرسين، بالإضافة إلى معاناة المدارس من نقص التمويل في المناطق الفقيرة أن تعيق من نمو الدماغ الطبيعي. وتضافر هذه العناصر يؤدي إلى استحالة التعلم ويساهم في المعاناة التي يلاقيها الأفارقة الأميركيون، على سبيل المثال، وحصارهم في نطاق الفقر. من السهل أيضاً رؤية كيف يمكن استخدام دعوى الأدمغة الأصغر”كوقود للرؤى المتطرفة حول عدم المساواة الاجتماعية والأشخاص الذين يعانون منها في المجتمع ” وهو ما يعتقده بايرد. كما يبدأ ترديد الحجج العرقية الخطيرة التى تعود نشأتها للأجيال السابقة على أيدي مدعي العلم الذين ادعوا أن السود لهم أدمغة أصغر ولذا هم أقل ذكاءً من الأوروبيين.
يتفق العلماء الذي أجروا هذه الأبحاث الدماغية على أن عملهم يتعرض لتبسيط مخل سواء عبر وسائل الإعلام أو حتى ملخصات الأبحاث. يقول عالم الأعصاب بجامعة كولومبيا كيمبرلي نوبل، والذي قاد البحث المنشور في Nature Neuroscience، “على سبيل المثال، إنهم يشيرون إلى علاقة سببية بينما لا نملك إلا دلائل تلازمية في هذه النقطة”، كما أضاف “تصوير النتائج بهذه الطريقة غالباً ما يشوه العلم. الدماغ ليس قدراً محتوماً. لا يمكنني التنبوء بحجم دماغ أحد الأطفال اعتماداً على دخل أسرته مطلقاً”.
ويشير شونكوف إلى أن دخل عائلة الطفل هي مجرد إحدى قطع الأحجية، قائلاً “تجد أطفالاً يعيشون في فقر لكن أدمغتهم بخير تماماً”، يعود ذلك إلى أن الفقر، من ناحية، يجري قياسه بالدخل. وهو، وحده، لا يساوي وجود العنف والضغط المزمن اللذين يتسببان بإعاقة النمو العصبي الطبيعي. ينشأ بعض الأطفال في الضواحي الفقيرة التي تحكمها العصابات وهم يشعرون بالأمان لأن عائلاتهم وفرت لهم الحماية وأهلتهم عاطفياً للتعامل مع المصاعب.
استطاع هؤلاء الأطفال تطوير المرونة الكافية لحماية أدمغتهم من المصاعب، عبر علاقاتهم بأهلهم ومعلميهم وغيرهم من البالغين الذين وفروا لهم الأمان وعلموهم آليات التصدي لكيلا تبقى أنظمة الكرّ والفر خاصتهم متأهبة على الدوام. أو كما يقول شونكوف “الأمر متعلق بإيصال نظام الضغط إلى خط الأساس وبناء القدرة على التعامل مع مصاعب وأعباء العنف والفقر”.
هل فات الأوان؟
هذه التصرفات غير الملحوظة هي ما تشير إلى الحل المحتمل: علينا أن نعلم الأطفال الذين ينشأون في فقر كيفية التعامل مع الضغوط منذ عمر مبكر. حتى مع الأساس العصبي بسبب وجود المصاعب منذ وقت مبكر، “فلم يفت الأوان بعد” كما يقول شونكوف “يستمر الدماغ في التطور”. يمكن للدوائر العصبية أن تتشكل بتأثير البيئة. تزداد مرونة الدماغ العصبية، الممثلة في قدرته على تغيير تراكيبه، بعد الولادة وفي الطفولة المبكرة وعلى الرغم من انخفاضها بمرور الوقت إلا أنها لا تصل للصفر مطلقاً. يتعرض الدماغ في الفترة ما بين 15 إلى 30 عاماً لطفرة ثانية من زيادة المرونة، وهو ما يعني أن بإمكان المراهقين والشباب، بالتدريب والتوجيه، التكيف.
للوصول لذلك، يتفق خبراء سلوك الأطفال على أننا نحتاج لإعادة النظر في السياسات والبرامج الاجتماعية في المجتمعات الفقيرة، والاستثمار في البرامج التي تقلل الجريمة والتلوث والزحام والإساءة، وتركز على مساعدة الوالدين خلال الخمسة أعوام الأولى من عمر الطفل. على البرامج الجديدة أيضاً أن تركز، لا على الأطفال فقط، وإنما أيضاً على الأم التي نشأت في فقر ولذا لم تكتسب مهارات التكيف والتأقلم ومن ثم لا يمكنها تعليم هذه المهارات لأطفالها.
يمكن للمدارس أيضاً أن تضيف مساقات للتعلم الاجتماعي والعاطفي في مناهج المدارس الإعدادية وحتى الثانوية، والمُصممة لمساعدة الأطفال في التعرف على مشاعرهم والانتباه إليها، خاصة عند التأقلم مع الضغط أو الصدمات. ويمكن أن تصبح هذه المساقات أساسية مثل القراءة والرياضيات. سيحتاج ذلك إلى جهد كبير لإعادة تقييم أولويات مؤسساتنا التعليمية والتنموية، وإيجاد طريقة لتمويل البرامج الجديدة والأدوات التي تظهر الحاجة الضرورية إليها.
سيحتاج تفعيل هذه البرامج إلى قوة هائلة مثل قوة الكونغرس، والحكومات المحلية والمجالس المدرسية أو النظام القانوني الأميركي. في عام 2013، توصلت إحدى الدراسات التي أجرتها كلانسي بلير من مختبر علم الأعصاب والتعليم بجامعة نيويورك، إلى الارتباط بين الوقت الذي يقضيه الطفل في فقر وفي منزل فوضوي وبين ارتفاع مستويات الكورتيزول في جسمه. وترى بلير أنه يمكن استخدام النتائج المماثلة بنفس الطريقة التي اُستخدمت بها نتائج الأبحاث السابقة للأضرار الصحية الناجمة عن استخدام التبغ أو الوجبات السريعة والمشروبات المليئة بالسكر لتغيير السياسات المنظمة لتلك الصناعات في نهاية المطاف. بالمثل، يمكن استخدام النتائج التي توصلت لها بلير أو غيرها لدعم تشريعات جديدة أو حتى دعاوى قضائية تستهدف الظروف المعيشية المزدحمة أو السكن الذي لا يتحمله الأطفال.
ويمكن للأنظمة الأخرى المساهمة في ترسيخ دورة الفقر مثل تدني المدارس والبنية التحتية، وغياب الأمن عن الأحياء الفقيرة، وغياب الرادع عن الإساءة إلى الأطفال، بالإضافة إلى التلوث البيئي وغياب الرعاية الصحية والمواصلات العامة والمساحات الخضراء، أن تواجه عقوبات قانونية أو قوانين جديدة.
العديد من الملائكة
مرّ عامان تقريباً منذ أتمت فيرغارا تدريبها مع إموردينو يانج. تخرجت من المدرسة الثانوية في 2015 بمعدل 3.8 كما كانت درجاتها في اختبار SAT هي الأعلى في صفها. وهي الآن تدرس الهندسة الطبية الحيوية في جامعة سان خوسيه بمنحة كاملة. تروي أن البعض يعتبرونها من الناجين حين يعرفون أين نشأت، ويتسائل زملاؤها في الجامعة أحياناً “كيف نجوتِ؟”.
وهي تعلم كيفية نجاتها، كان منزلها في فترة نشأتها هو الملجأ. لم يتمكن والداها من السيطرة على ما يحدث في الشارع خارجاً، لكنهما سيطرا على كل ما يقع داخل أبواب المنزل. مازالت حديقتهما هي أكثر حدائق المنطقة اخضراراً، حيث تنمو الزهور الوردية والحمراء والصفراء. في الداخل، غرفة المعيشة شديدة النظافة بجدرانها الوردية المزينة بصور العائلة المؤطرة، مثل صورة شقيقة فيرغارا في فستان أبيض وهي تحمل بين يديها باقة من الزهور أثناء احتفالها ببلوغ الخامسة عشرة. بينما تتزين منصة التلفاز بعشرات التماثيل الصغيرة: باندا وسلحفاة ولبؤة مع أشبالها وتمثال الحرية والعديد من الملائكة.
تشاركت فيرغارا غرفة النوم مع شقيقتيها وابنة شقيقها. قد يرى البعض ذلك ازدحاماً، لكنها رأت فيه دفئاً وحميمية. لم يعلم الأولاد بالأوقات التي عانى فيها أهلهم بسبب المال، وتتذكر فيرغارا تدبيرهما بالوجبات المطهوة منزلياً مثلل تاكو البطاطس والجزر. صعد والداها سلم العمل في المصنع الذي التقيا فيه ليصحبا مديرين على خطوط التجميع في نهاية المطاف. وسددا رهنهم العقاري هذا العام.
اتصف والدا فيرغارا بالحزم أيضاً، وسنَّا قواعد صارمة للواجب وللاجتماعيات. لعبت فيرغارا كرة القدم والكرة الطائرة في مدرستها الثانوية، وهو ما شغلها عن المشاركة في الحفلات. لكنها لطالما شعرت بما يكفي من الراحة للتحدث مع والديها بانفتاح، وهما أيضاً لطالما شجعاها هي وأشقاءها على البحث عن نماذج وسط البالغين الآخرين. نشأ الأطفال وهم يعرفون كل أعضاء العصابات في منطقتهم وجهاً واسماً، لكنهم عرفوا أيضاً بمن يمكنهم الاحتماء إذا اشتعلت الفوضى، مثل صاحب متجر المثلجات والجيران الودودين.
درس مدربها للكرة الطائرة في المدرسة الثانوية في جامعة جنوب كاليفورنيا، وهو من عرفت فيرغارا من خلاله الهندسة الطبية الحيوية. والتي قررت دراستها لاحقاً. قدمها لإموردينو يانج، وغيرها من الباحثين في جامعة جنوب كاليفورنيا، والذين لم يعلموا فيرغارا المزيد عن الدماغ فقط، بل ساعدوها في كتابة طلبات التقديم الجامعية أيضاً.
تعرف فيرغارا أنها محظوظة بوجود عائلتها والموجهين الذين قابلتهم. لم يحصل الأصدقاء الذين نشأت وسطهم على ذات الفرص أو أنظمة الدعم. ولطالما لاحظت أثناء نشأتها تقسيم المعلمين والإداريين بين الطلبة الذين يعتقدون “بوجود قدرات محتملة لديهم وبين الآخرين”، ومعاملة كل مجموعة بشكل مختلف، لكن هذا العلم الجديد يضيء المزيد من المناطق لا مجرد السلوكيات الظاهرة أو مشكلات التعلم. حين يتعلق الأمر بتطور الدماغ، فالأمر أكثر تعقيداً، ويمكن لهذه الأبحاث أن تفتح عيوننا على الكثير مثلما قالت فيرغارا.
هذه الثورة العلمية هي البداية فقط، هكذا قالت إمورينو يانج والتي توصلت أبحاثها إلى أن المراهقين الذين يتأملون العنف الذين يشهدونه لديهم أنماط مختلفة لاتصال الدماغ قد تشي بمرونة أكبر، وبمزيد من مشاعر التعاطف والإلهام. “بدأنا في تقدير ثراء الطبقات الاجتماعية، الضغط الاجتماعي للفقر هو الذي يسفر عن هذه التأثيرات على تشكيل نمو الدماغ وتطوّره الحيوي بطرق نعتقد أنها ستستمر طويلاً”.
(هافينغتون بوست عربي)