توقفت الحياة السياسية في اليمنمنذ انقلاب الحوثيين وصالح، وهو الانقلاب الذي جاء تنفيذا لأجندة إيرانية، ولم تكن له في الواقع أي مبررات محلية اللهم إلا محاولة إخراج الحكم من يد حكام “المركز المقدس” بشقيه الديني والقبلي، والخوف من تطبيق مخرجات الحوار.
وكانت مخرجات الحوار قد خلصت إلى إقرار تغيير نظام الحكم في اليمن من النظام المركزي الشمولي إلى النظام الفيدرالي الاتحادي، والإجماع على إعادة تشكيل البلد في ستة أقاليم متساوية النفوذ، واتفاق الجميع على سيادية الموارد والعلاقات الخارجية والمالية والقضاء، تحت سلطة عامة تشرف على سير عمل سلطات الأقاليم، وتمثلها في المحافل الدولية، مُنهية بذلك فصلا مأسويا من المركزية المتسلطة.
ما الذي جلب المخاوف للقوى المتشبثة بالسلطة، أو تلك الحالمة بها من النظام الفيدرالي الاتحادي؟ وما الذي دعا لتورط الحوثي- صالح في الانقلاب الذي ينحدر كل يوم نحو الفشل؟
أفرزت ثورة 11 فبراير/شباط 2011 واقعا جديدا في ميزان القوى على امتداد الساحة اليمنية، وبدلا من لملمة الصفوف والدخول في مرحلة انتقالية توافقية للخروج بالبلد من “المضيق” الذي دخلته، تناست القوى السياسية واجباتها وتذكرت فقط المحاصصة الحزبية؛ فكان التوجه الجماعي لتلك القوى نحو الحوار الوطني الشامل، وكان من المفترض أن يمثل حلا، في حالة إذا ما انخرط المشاركون في حوار جاد، تاركين أيديولوجياتهم خارج أروقة “موفمبيك”، لكن إشراف مبعوث الأمين العام للأمم المتحدة “جمال بنعمر” على تقاسم مقاعد مؤتمر الحوار، صنع فرزا أيديولوجيا واضحا قبل الدخول في الحوار، وقد انعكس ذلك على سير جلسات المؤتمر.
ولأجل تمرير مشروع الفيدرالية في مؤتمر الحوار، حدثت تحالفات بين ممثلي مختلف الأطياف السياسية، وخرجت الرؤية بالاتفاق على ستة أقاليم؛ وهذا ما أغضب بعض أطراف اليسار، وهو ما دعاها إلى الاستبشار والتبشير بالقوة الصاعدة (الحوثيين)، ولذا تم تضليل الجماهير بأهمية هذه القوة القادمة من الكهوف، وبأنها ستخلص عمران وصنعاء من القوى التقليدية، إلى أن سيطرت على الدولة، وأنهت وسوسة المبشرين بها قبل غيرهم، وأظهرت سلوكها العدواني في احتلال المدن اليمنية المختلفة.
لم يكن أمام الرئيس القادم للصلح بين طرفي النزاع (الثورة والنظام السابق) إلا تفكيك القوى المتخندقة خلف رؤاها، حتى تسير العملية السياسية في البلد بدون معوقات تشدها إلى الماضي. وقد فعلها هادي وهو كما يصفه البعض بالضعيف عسكريا وسياسيا، وفكك كل الأيديولوجيات والقوى التقليدية والصاعدة والحداثية، لكن اللعبة الخطرة لم تسلم ولم تمض وفقا للمأمول، فدخول الحرس الجمهوري التابع فعليا للرئيس السابق في الخط غيَّر وجه البلد.
قبل الحرب الأهلية في عام 1994 -والتي خاضتها القوى الوطنية بقيادة الرئيس علي عبد الله صالح وقتها ضد الهاشمية السياسية المتدثرة باليسار بقيادة نائب الرئيس علي سالم البيض- كان القيادي في الحزب الاشتراكي أحمد عبيد بن دغر، قد طرح فكرة الفيدرالية لحل النزاع على السلطة بين الشمال والجنوب، واعتبرت تلك الدعوة في الشمال مدخلا للانفصال، ولم يُستجَب لها في الجنوب، ولم تجد صدى، ولم تُناقَش بجدية.
وفي 2006 كان نفس القيادي في الحزب الاشتراكي الدكتور أحمد عبيد بن دغر، قد أعاد طرح فكرة الفيدرالية على قيادته بعد أن نضجت الفكرة لديه، وقدمها بطريقة علمية أكثر دقة وتفصيلا، وبعدها بثلاثة أشهر تقريبا، كان القيادي ذاته قد غادر حزبه وانضم إلى حزب المؤتمر الشعبي العام، هذا القيادي المتنقل بين الأحزاب، صار اليوم رئيسا للوزراء في حكومة الشرعية، وأصبح لديه اليوم القدرة أكثر على تنفيذ أطروحاته التي سبق بها الجميع، وخاصة أنها صارت تحظى بإجماع مؤتمر الحوار.
تأتي المخاوف من الفيدرالية من قبل بعض سكان شمال الشمال لأسباب غير واقعية ولا منطقية؛ فتيار الهاشمية السياسية المتمركز في إقليم آزال، كان قد جرب الحياة السياسية بتأسيس أحزاب دينية مثل أحزاب الحق، والقوى الشعبية والأمة، ولم يوفق أيٌّ من تلك الأحزاب بالحصول على القبول الجماهيري لا في الشمال ولا في الجنوب، ونتائج كل الانتخابات التي مرت بها البلد من 1993- 2003 تثبت ذلك.
في 2011 خرج الرئيس السابق في زيارة ميدانية إلى منطقة الحيمة في صنعاء، وقال للمواطنين هناك: إذا خرج الحكم من صنعاء، فإنه لن يعود إليها “حتى ولو بعد خمسين سنة قادمة”، وهذا هو السبب في رؤية بعض القبائل في الشمال، أن الحكم يجب أن يظل في صنعاء، ولا يخرج منها لا قبليا ولا مذهبيا، ولذا عُززت الجماهير هناك بخديعة الانتماء الطائفي للمذهب الزيدي، وتم الترويج في تلك المناطق -التي لم تحظ بحقها من التعليم والتمدين- بأن الفيدرالية ستمزق البلد، ولذا يجب التصدي لها، لكن الحوار الوطني أفرز إجماعا على الفيدرالية، فاحتج البعض هناك بأن اقليم آزال ليست فيه موارد، وليس فيه ميناء، وتم التحريض ضد الفيدرالية.
كما أن الرئيس السابق علي عبد الله صالح، يرى أنه الحاكم الوحيد ذو الأصول الحميرية اليمنية الذي حكم اليمن منذ 1200 سنة لمدة ثلاثة عقود، وأنه هو مَن حقق الوحدة بين شطري البلاد، ولذا فالفيدرالية بالنسبة له تخريبٌ لما أنجزه؛ فرفضها سرا، ووافق عليها حزبه في مؤتمر الحوار كرها؛ خوفا من رعاة المبادرة والدول العشر.
عودة بريطانيا إلى الشرق الأوسط، يجعل مشروع فيدرالية اليمن على المحك؛ فالبريطانيون فعليا هم مَن فصَل اليمن إلى شطرين أيام استعمارهم للجنوب، والخوف الآن يتمثل في إصرارهم على إمضاء خارطة اليمن كما هي في مخيلتهم مرسومة من شطرين، مع العلم أن إيران وحلفاءها يرون الفيدرالية من شطرين خيارا مناسبا لهم بعد أن فشلوا في السيطرة على اليمن كله، لذا تحتاج الشرعية إلى ديبلوماسية نشطة لتسويق فيدرالية الأقاليم الستة أمام الإنجليز وأمام التحالف العربي والعالم، لما فيها من حل لمشكلة جميع اليمنيين، ولما سيمثله هذا الحل من استقرار لليمن والخليج وللقرن الأفريقي.
هذه الحرب الدائرة لن تستمر إلى الأبد، ولابد أن تضع أوزارها، ولذا سيتحتم على رئيس الوزراء -وهو المنظر الأول للفيدرالية- تفعيل الخطاب العقلاني لحكومته للولوج نحو حقبة جديدة تسودها المساواة والعدالة وحرية الإنسان وكرامته، ويجب أن تخرج النخب اليمنية من معاركها الوهمية للمساهمة في رفع الوعي، والمشاركة في البناء الذي يتطلب كل الجهود، وهذه مصالح شعب غير قابلة للمزايدات السياسية والإيديولوجية، وتلك قاعدة يجب أن ينطلق منها الجميع.