لم يكن إعلان الجيش اليمني الموالي للشرعية والتحالف العربي، بقيادة السعودية، عن السيطرة على مديريتي ناطع ونعمان شرق محافظة البيضاء، أواخر ديسمبر/كانون الأول الماضي، سوى نقلة جديدة وانتصار معنوي في الحرب الدائرة في المحافظة منذ أكتوبر/تشرين الأول عام 2014.
فمن الناحية العسكرية، لا تمثل المديريتان أهمية استراتيجية أكثر من كونهما معبراً إلى محافظة شبوة الساحلية الثرية بالنفط، ولا تتمتع جبالهما بارتفاع يجعلهما تهديداً للمديريات الداخلية للبيضاء. وبعد نجاح التحالف في إخراج الحوثيين من شبوة، لم تعد للمديريتين أهميتهما السابقة عسكرياً، لكن هذا الأمر بالتأكيد لا ينطبق على باقي مديريات المحافظة شديدة الأهمية.
محافظة البيضاء هي أقدم جبهة قتال ما زالت مفتوحة مع الحوثيين. وكانت، قبل دخول قوات الشرعية، برئاسة عبد ربه منصور هادي، وقوات التحالف بقيادة السعودية، ساحة المعركة مع جماعة “أنصار الله” (الحوثيين)، أول محافظة تواجه الجماعة بالسلاح، بعد توسعها السهل من صنعاء باتجاه وسط وغرب البلاد يومها. وتعتمد هذه الجبهة على مسلحين قبليين وعناصر من تنظيم “القاعدة” أكثر من اعتمادها على قوات عسكرية نظامية.
وكانت الحرب على الإرهاب في محافظتي البيضاء ومأرب، أحد شروط الحوثيين في الملحق الأمني بوثيقة “السلم والشراكة” الموقعة بين الأطراف السياسية اليمنية، عشية سيطرة الحوثيين على صنعاء، في 21 سبتمبر/أيلول 2014، مؤشراً على أولويتها وأهميتها للحوثيين منذ البداية. لكنهم فشلوا في إخضاعها التام على مدار 3 سنوات من الحرب هناك وحتى اليوم، رغم تحوّلها إلى ثقب أسود التهم من المقاتلين من الطرفين أكثر من أية جبهة أخرى، خصوصاً في بدايات الحرب.
وتتمتع البيضاء بموقع استثنائي، إذ تتشارك حدودها مع 8 محافظات يمنية مهمة، هي شبوة وأبين ولحج والضالع من محافظات الجنوب، وإب وذمار ومأرب وصنعاء من محافظات الشمال، وكانت مفتاح صنعاء الذي فتحت به بوابة الجنوب في حرب صيف 1994 من جبهة مكيراس.
وكان تنظيم “القاعدة” قد حوّل البيضاء إلى مركز رئيس جديد له، بعد نجاح الجيش في طرده من محافظة أبين المحاذية للبيضاء في 2011. وفي البيضاء، قامت طائرات من دون طيار أميركية بتصفية الأميركي من أصل يمني، أنور العولقي، أحد أبرز المطلوبين لديها في 2011.
وكان للعولقي دور بارز في تمكين “القاعدة” من المحافظة وتوفير حاضنة اجتماعية عبر آل الذهب الذين تزوج منهم وأنجب طفلة قتلها الأميركيون، في يناير/كانون الثاني 2017، عندما نفّذت قوات أميركية أول إنزال بري لها في اليمن في عهد الرئيس دونالد ترامب، في عملية يكلا التي استهدفت عبد الرؤوف الذهب، خال نورا العولقي.
وكان الذهب ساهم بشكل كبير في تمكين صهره العولقي من جعل البيضاء مركزاً محورياً لـ”القاعدة”، ما أدى إلى حصول المحافظة على نصيب وافر من 120 ضربة جوية نفذتها طائرات أميركية من دون طيار في اليمن خلال 2017، إلى جانب جهود وعلاقات الزعيم السابق لتنظيم “القاعدة في جزيرة العرب”، ناصر الوحيشي، الذي يتحدّر من منطقة في البيضاء تحاذي محافظة أبين، التي مثلت بدورها معقلاً مهماً لتنظيم “القاعدة” حتى 2012 على الأقل. كما أن دعاية الحوثيين ضد المحافظة كمعقل لـ”القاعدة” ساعد التنظيم في إنجاح مهمته بكسب القبائل.
ويوم الإثنين الماضي، أول أيام العام الجديد، دشنت طائرات أميركية من دون طيار هجماتها على اليمن من ذات المحافظة، واستهدفت مجموعة من المسلحين في مديرية القريشية شمال البيضاء، لتقتل اثنين من المسلحين التابعين للمقاومة الشعبية، الموالية لهادي، وفقاً لوسائل إعلام محلية.
والتقى، أول من أمس، رئيس “المجلس الأعلى” في صنعاء، صالح الصماد، بوجاهات قبلية من البيضاء، في محاولة لكسبهم إلى صف جماعته في الحرب، بعد سيطرة الشرعية على مديريتين من المحافظة.
وهاجم تنظيم “القاعدة” مركز البيضاء، في أكتوبر/تشرين الأول 2014، تحت شعار رفعه، للمرة الأولى، وهو مواجهة ما سماه “المد الرافضي”، في إشارة إلى الحوثيين المخالفين له مذهبياً. ومن يومها، وهو يخوض معاركه مع الحوثيين هناك، مرتكزاً إلى ظهير قبلي محلي نجح في استنفاره وتحويل الحرب مع الحوثيين من حرب معه إلى حرب مع قبائل البيضاء، مستغلاً خلفية تاريخية من علاقة الخصومة التقليدية التي تربط أبناء البيضاء بالمذهب الزيدي، منذ قيام الإمام يحيى حميد الدين، الذي حكم اليمن بالمذهب الزيدي، بالقضاء على سلطة الرصاص في البيضاء في ثلاثينيات القرن الماضي. واستندت الشرعية أيضاً على ذات الإرث بتعيينها، قبل أشهر، محافظاً جديداً للبيضاء من أسرة الرصاص، وهو نفس الأمر الذي قامت به سلطات الجمهورية بعد القضاء على نظام الأئمة، في سبتمبر/أيلول 1962، بتعيينها حسين الرصاص محافظاً للبيضاء.
وفي البيضاء، أصبح نسيج القوات المقاتلة ضد الحوثيين معقداً لدرجة يصعب فيها الفصل بين قيادات “القاعدة” وقيادات المقاومة بعد 2014. فالذهب الذي قتلته الطائرات الأميركية كقيادي في “القاعدة” كانت الشرعية تعتبره قيادياً في المقاومة ضد الحوثيين، ونائف القيسي، الذي عيّنه هادي محافظاً للبيضاء، وضعته وزارة الخزانة الأميركية على قائمة الداعمين للإرهاب منتصف 2016، والأمين العام لحزب الرشاد السلفي وعضو وفد مشاورات جنيف عن الشرعية، عبد الوهاب الحميقاني (من قبيلة آل حميقان في المحافظة) وضعته أبوظبي والرياض على قائمة داعمي الإرهاب، في خطوة متأخرة عن واشنطن التي وضعته على قائمتها في 2013.
وأدى تصنيفه من قبل دولتين تقودان التحالف العسكري الداعم للشرعية إلى تراجع كبير في مواجهة قبيلته للحوثيين، وهي تمثل حاجزاً بينهم وبين منطقة يافع الجنوبية المهمة. واتهام الحميقاني والقيسي بالإرهاب لا يخلو من تصفيات خصومة بين قيادة التحالف ودولة قطر التي كان لهما علاقة قوية بها قبل خلافها الأخير مع السعودية والإمارات. ومن غير المرجح اعتناق آل الذهب للإيديولوجيا الفكرية لـ”القاعدة”، إذ إنه من المعروف أنهم أسرة كانت أقرب لحزب “البعث” العراقي في زمن صدام حسين. وهذا قد يكون دافعاً آخر لمواجهة الحوثيين بالنسبة لهم، على اعتبارهم حلفاء لإيران التي حاربت صدام حسين لسنوات. ولم ينجح الحوثيون في تغيير هذه الصورة النمطية عنهم.
المواجهة الشرسة التي قوبل بها الحوثيون هناك دفعتهم إلى اعتماد استراتيجية الهجمات المكثفة التي أفقدتهم أعداداً ضخمة من عناصرهم، لكنهم نجحوا، في النهاية، في ترجيح الكفة لصالحهم على الأرض. وفي المقابل، أوقعوا خسائر بشرية ضخمة بخصومهم، بعد امتصاص الصدمة الأولى.
كما أن ضربات الطائرات الأميركية من دون طيار صبّت، بشكل أو بآخر، في مصلحة الحوثيين بتصفيتها عددا من قيادات “القاعدة” الذين كانوا يقاتلونهم بدافع عقائدي. ولم يكن الحوثيون مخطئين في اختيارهم لمحافظتي البيضاء ومأرب كهدفين لمحاربة “القاعدة” أواخر 2014، فقبائل المحافظتين من أشرس قبائل اليمن وأشدها تسليحاً خارج الجغرافيا الزيدية الموالية للحوثيين، وهما الأكثر ارتباطاً بالسعودية أيضاً. وعدم السيطرة عليهما، أو كسب ولائهما على الأقل، يمثل خطراً حقيقياً على أية سلطة في صنعاء، إضافة إلى كون البيضاء مفصل التحكم الجغرافي بين صنعاء ومناطق النفط في شبوة ومأرب، ومناطق القوة في الجنوب كأبين ويافع، وتتمتع مناطقها الوسطى بطبيعة جبلية تجعلها حماية مهمة أمام أي هجوم على صنعاء من الجنوب أو الشرق.
كما أن هذه القبائل المسلحة حافظت على تقاليدها، ولم تتأثر بموجات الاغتراب إلى أوروبا وأميركا، منذ منتصف القرن الماضي، خصوصاً في المناطق المحاذية لمحافظة إب والقريبة من الحدود مع الجنوب، بحكم ارتباطها بعدن وعدم انخراطها في الجيوش القبلية لإمام صنعاء كمصدر دخل للقبائل المماثلة لها قبل ثورة سبتمبر 1962، بعد أن كسر الإمام شوكتها بمساعدة الإنكليز يومها ضد آل الرصاص، لأن مناطقهم محاذية لبيحان وقبائل شبوة المناهضة للإنكليز يومها. وبالعكس مثل الاغتراب مصدراً مالياً ضخماً لأبنائها، مكّنهم من المحافظة على عادة التسلح الدائم، إضافة إلى زراعة القات وما تدرّه من دخل مرتفع، خصوصاً المناطق المحاذية لقبائل عنس والحدا من محافظة ذمار.
وتمثل البيضاء أهمية للحوثيين بحكم موقعها، وتمثل أحد أهم مفاتيح صنعاء وإب وذمار بالنسبة للشرعية، كما أنها محافظة تُفقد الحوثيين أحد أبرز مواقعهم الجغرافية، فهي تمتلك مقاتلين أكثر جاهزية من محافظات أخرى، ولهم تاريخ من المعارك مع الحوثيين. والسيطرة عليها، في أقل الأحوال، يمثل عامل استنزاف خطيرا للحوثيين و”القاعدة” في الوقت ذاته.
وهي تمثل بالنسبة إلى تنظيم “القاعدة” منفذاً استراتيجياً يلوذ به عندما يتعرض للضغط في أبين أو شبوة، كما حدث في 2011 و2012 في أبين، وحدث أخيراً بعد تمكّن قوات “النخبة الشبوانية”، المدعومة إماراتياً، من دحر “القاعدة” من مناطق شبوة.
إجمالاً، فإن حديث الشرعية عن انتصارات حاسمة لها ضد الحوثيين في مديريتي ناطع ونعمان لا تعني حدوث انهيار كبير في صفوف الحوثيين في باقي المحافظة، ذلك أن المديريتين هما مناطق مرور للحوثيين إلى شبوة، لكنهما لم تكونا مناطق صراع حقيقي مع الحوثيين، خلال السنوات الثلاث الماضية، بل كانتا طريقاً لانسحاب هؤلاء من بيحان وعسيلان، بعد سيطرة الشرعية عليهما أخيراً.
وتتركز سيطرة الحوثيين في البيضاء أساساً على وسط وغرب المحافظة، أما المديريات الأخرى فلم تخض قتالاً كبيراً مع الجماعة، بل خضعت لسلطة من استطاع السيطرة عليها. ولم تكلف السيطرة على ناطع ونعمان قوات الشرعية خسائر كبيرة، مقارنة بما يمكن أن يحدث في مديريات الداخل الأخرى.
وسيطرة الشرعية والتحالف على مديريتين من 20 مديرية تتشكل منها محافظة البيضاء قد تكون مؤشراً على مستقبل المعارك مع الحوثيين، لكنها لا تمثل انتصاراً كبيراً للشرعية على الأرض، إلا إذا تمكنت من السيطرة على المديريات الرابطة بين مأرب والبيضاء، وبين الأخيرة وذمار تحديداً.
فوصول الشرعية إلى مديريات العرش والقريشية وولد ربيع الغربية والشمالية سيمثل خطراً حقيقياً، ليس على البيضاء بل على صنعاء ذاتها.
كما أن السيطرة على مكيراس ستمثل خطراً على المحافظات الجنوبية، كأبين ولحج، وهذا لم يحدث بعد، ويحتاج تحقيقه للكثير من الوقت والتضحيات والإمكانيات. ومنذ عام ونصف العام تمثل البيضاء منفذاً رئيسياً لسكان المناطق الخاضعة لصنعاء نحو الخارج، باعتبارها الطريق إلى سيئون، حيث يوجد واحد من مطارين يتيمين يربطان اليمن بالخارج.
وسيمثل غلق طريق مأرب-صنعاء الأقرب إلى سيئون، نتيجة الحرب الجارية في نهم، وتوسع المعارك في البيضاء، كارثة أمام هؤلاء، لأن المنفذ نحو الحياة للمرضى تحديداً سيغلق، مع تعسف “الحزام الأمني” لعدن في التعامل مع مواطني الشمال، حيث يوجد المنفذ الثاني للعالم عبر مطار عدن، ما دفع هؤلاء إلى تفضيل طول طريق البيضاء-سيئون على سوء معاملة أجهزة الأمن الموالية للإمارات في الطريق إلى عدن.
ومن المرجح أن معركة البيضاء ستكون طويلة حتى لو امتلك التحالف إمكانية التقدم السريع، لأن انتصاره سيغير بوصلة مقاتلي “القاعدة” باتجاهه بدلاً من توجيهها ضد خصومه الآن. وبالتالي فإن تحويل البيضاء إلى جبهة استنزاف للحوثيين ولتنظيم “القاعدة” معاً قد يكون الاستراتيجية الأقرب للتعامل معها على المدى المنظور.