كتب/ محمد جميح
قبل الإسلام بعشرات السنين سال دم شيخ عشيرة تحول ملكاً في بلاد العرب، انسكب الدم واستل السيف، ودامت حرب لسنوات طويلة، لكنها امتدت قروناً طويلة تحت مسميات مختلفة.
واستمرت ثنائية دم كليب/سيف المهلهل في كربلاء وما بعدها، لنعيد إنتاج ثنائية الموت على شكل: دم الحسين/ سيف المختار، ثم سالت بعد ذلك دماء ودموع، وتناسلت السيوف والرماح على هذه الأرض عبر التاريخ، الذي سُميت حروبه بعد ذلك بـ«أيام العرب»، وتواصلت عبر الجغرافيا التي انفتحت دار عزاء كبيرة، تارة على كليب وأخرى على الحسين،.
وكما تناسلت الدماء تناسلت السيوف، ومن دماء وائل بن ربيعة والحسين بن علي إلى سيوف سالم بن ربيعة والمختار الثقفي، إلى الحجاج بن يوسف وسعيد بن جبير، إلى أن وصلنا الْيَوْمَ إلى غابات من الحديد المدرع والقصف والجحيم السوري، ورايات سوداء وخضراء تخفق، وصرخات تتناسل: يا لثارات الحسين، الذي تحول اسمه إلى غطاء مورست تحته الجريمة الأكبر في تاريخ العرب منذ دم الحسين، إلى دم ضحايا الموت بتذويب الأجساد بالأحماض في السجون الرهيبة، إلى ممارسة ثوراتنا الشخصية باسم الحسين ويزيد، وتاريخ مجرح وذاكرة محتقنة.
لم تكن قبائل وائل تدرك، قبل مئات السنين، أبعاد مشروع كليب في توحيدها وجعلها قوة في المنطقة، ولم يكن كليب يدرك أن قبائله حديثة عهد بالنظام والدولة، وانتهى مشروع كليب إلى قتله على يد جساس، ليطوق دمه رقبة جساس، مستفزاً سيف المهلهل لثأر ليس له نهاية. وكانت ناقة البسوس مجرد عنوان جرت تحته تفاصيل الحرب التي كادت تفني البكريين والتغلبيين، وكانت قصة رعيها في «حمى كليب» مجرد غطاء، وكانت القصة الحقيقية تكمن في النفوذ والسيادة والكرامة القبلية والعناد الأحمق.
واليوم ترعى هذه الناقة في حمى النفط والغاز في الخليج، وتبرك على حدود مصر والسودان، والجزائر والمغرب، وغيرها من مناطق الحمى التي تحاول البسوس المعاصرة أن ترعى فيها، لا لأجل المرعى، ولكن ليقتل جساس بن مُرَّة كليباً بن ربيعة، وتبدأ التراجيديا من جديد. والأمس القريب أطلقت البسوس ناقتها على عين نفط، لتخلق مشكلة عربية كبيرة، لكي يظل دم كليب ينزف في المجرى ذاته الذي نزف فيه دم الحسين، ولا يبقى إلا سيف المهلهل والمختار يلوحان في الآفاق. كانت بكر وتغلب قبيلتين محظوظتين، إذا لم يكن في وقتهما إلا بسوس واحدة ترحل على ناقة واحدة. أما اليوم فيتحدث الراوي- يا سادة يا كرام – عن بسوس جاءت من بلاد المشرق تنوح على دماء سكبت في كربلاء قبل مئات السنين، لتعيد الحرب جذعة، كما تقول العرب.
كانت البسوس السابقة تهتف بجساس الذي أوهمته بأنه مستهدف من الملك كليب للسيطرة عليه، وتحويله من زعيم قبيلة مهابة إلى أقلية قبلية تابعة، وبسوس المشرق – الْيَوْمَ- تهتف في أذن جساسها أنه مهدد بالإبادة من «داعش» والقاعدة والتكفيريين، وأن جساساً لكي يحمي نفسه، فلا بد له أن يبدأ بالضربة الاستباقية برمح نافذ في ظهر ابن عمه كليب. لم يدر جساس أنه وكليب ضحية مكر خبيث من البسوس، التي وقفت في ما بعد تتبجح بأنها أصبحت تسيطر على طرق التجارة البحرية في الشرق الأوسط، بعد أن أخضعت التبع اليماني في صنعاء، والملك الكندي شرق الجزيرة، وضربت التغلبيين بالبكريين حتى لا تقوم مملكة كليب، التي كان مخططاً لها أن تكون مشروعاً عربياً ناجحاً قبل أن تزج البسوس بناقتها في حمى كليب، الذي عقرها قبل أن يقتله جساس بحشد من المليشيات التي مولتها البسوس من الأموال التي ربحتها من تجارتها بدماء ونفط ومواشي أبناء وائل بن ربيعة، الذين يتقاتلون حسب ظنهم نصرة للملك كليب، وثأرا للإمام الحسين، فيما هم في حقيقة الأمر يقتلون أنفسهم لتستطيع البسوس الشرقية بناء مجدها الإمبراطوري عسكريا وسياسيا واقتصادياً، بعد أن وضعت على كفيها قفازات من جلود أنعام العرب، لتغطي على جريمتها الحقيقية في المسؤولية التاريخية عن هذه الحروب، التي فجرتها بمكر ودهاء، مستغلة حمية العرب وحماقات قادتهم من بكر وتغلب.
وَمِمَّا لا شك فيه أن وراء هذه البسوس الإقليمية بسوساً أكبر، هي البسوس الغربية التي أشرفت عن بعد أحياناً وبشكل مباشر أحياناً أخرى على سيناريوهات “أيام العرب” التي راح فيها خلال سبع سنوات مئات آلاف السوريين والعراقيين، وعشرات آلاف اليمنيين والليبيين، وآلاف أخرى في مناطق أخرى من هذا الشرق الموبوء بالتعصب القبلي والطائفي والعرقي والسلالي في معظم بلدانه.
انكشفت الأدوار، واتضح أن قيادات بكر وتغلب كانت أدوات في يد البسوس الشرقية، التي هي بدورها مجرد أداة صغيرة في يد البسوس الغربية، التي لا تزال ناقتها ترعى، في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا وبلاد الأناضول وشرق آسيا، مفجرة حروباً لا تنتهي بالوكالة، تماماً كما كانت حروب البكريين والتغلبيين، والمناذرة والغساسنة لصالح القوى الإقليمية والدولية الكبرى، في هذا العالم الذي تتقاسمه تاجرة اسمها البسوس مع تجار آخرين يتاجرون بالبخور والأقمشة والجلود والنفط والغاز والدماء والدولار. إن هذه البادية العربية الممتدة تعيد إنتاج نفسها بشكل مخيف، سكانها لم يختلفوا عن الأعراب القدماء، سوى أنهم لم يعودوا يمتطون «مشَهَّر» المهلهل، ولا «نعامة» الحارث بن عباد، إذ أنهم اليوم يمتطون المرسيدس واللكزز والتيوتا، وخرجوا للتو من خيمتهم حاملين الآيفون والسامسونغ، ولكن بشكل يجعل حياتهم في الحقيقة مجرد نسخة منقحة من الزير وحصانه ومغامراته التي حدثنا عنها رواة السير وحفظة الأشعار والتواريخ.
لم ينضج لدى العرب حتى اليوم مفهوم التكامل، كي يحل محل النزعة الانفرادية، لا يزالون يتلون كلمات البادية التي لم تعلمهم أن عين الماء وعين النفط يمكن أن تنشأ بها وحولها مشاريع بناءة، أقرب إلى مفاهيم التكامل المؤسسية، بعيداً عن مفاهيم أخرى تدور حول التنازع التي أسست لها العقليات التي أنتجت حرب البسوس وداحس والغبراء، التي لبست لباساً دينياً في كربلاء، وألبسة وطنية وقومية وسلالية في غير ما مكان من هذه الرقعة الممتلئة بالرمل والأحادية والدماء والمؤامرات والدموع. ومرة أخرى، كان غوته يقول: «من لم يتعلم دروس الثلاثة آلاف سنة يبقى في العتمة«. أما أبناء وائل فلم يتعلموا دروس السنوات الثلاث الأخيرة، ولذا يعيدون إنتاج حروبهم القبلية كل مرة باسم الله والحسين، غير آبهين بالبسوس التي ترعى الكلأ وتشرب النفط والدماء.