المبروكة، أوباما، وتعز

مدير التحرير12 مارس 2016
المبروكة، أوباما، وتعز
مروان الغفوري

١. لا أشك، على المستوى الشخصي، في أن المقاومة بما تعنيه من الفداء حد التضحية بالحياة لأجل الآخرين هي أعلى درجات الأخلاق. في المقابل، فإن الجبن والنفاق والموالسة هي مثال للأخلاق المنحطة.
هذه المعادلة الرياضية البسيطة تدفعني إلى قول التالي:
عملياً، ورياضياً، لا يستقيم أن تصعد النصائح الأخلاقية من الأسفل إلى الأعلى، من الدرجات المنحطة إلى الدرجات الرفيعة. المنحطون، الجبناء والموالسون والمنافقون، غير مؤهلين لإسداء نصيحة حول الأخلاق. وأبعد من ذلك: على وجه الخصوص عندما يتعلق الأمر بالمقاومة، بحسبانها أرفع درجات الأخلاق.
هذه معادلة حسابية سهلة، وحاسمة.

٢. البارحة، مع مطلع ليل وادي الضباب في تعز، خرج أوباما من منزله المتواضع حاملاً معه “الطاسة”، وهي آلة شعبية تنتمي إلى الآلات الموسيقية الإيقاعية. بعد مضي وقت قصير كان الوادي، والقرى حوله، قد التف حول أوباما، وجعلوا يرقصون. أوباما شاب من وادي الضباب ينتمي إلى فئة المهمشين، أو “أخدام الوادي” بحسب التصنيف التاريخي الظالم. التحم بالجبهة، وصحبته زوجته. السيدة أوباما وضعت أول نقطة تفتيش مسلحة بالقرب من الوادي، قبل أشهر، ووقفت فيها. خاض أوباما، مع المقاوميين في الجبهة الغربية، مواجهات كثيرة ذاق فيها طعم النصر والهزيمة عشرات المرات. أمس كان يضرب بقوته كلها على الطاسة، كان أهل الوادي يرقصون. وعندما رأى قريته، وتجمعات المهمشين في الوادي ينصرون “أي يوقدون الشعلات على أسطح منازلهم” زاد من إيقاعه على الطاسة، واختنق صوته. لم يعد أحد يتذكر اسمه الحقيقي، صار بطلاً شعبياً اسمه أوباما، على اسم رئيس أكبر إمبراطورية في العصور الحديثة. في تعز يمكنكم أن تكون أوباما، أو أي شيء آخر، هي مدينة التنوع الخلاق، تمنح حلة المجد والشرف لأي شخص، وتطلب مقابلاً واحداً: الإنجاز. لذا ستبقى دائماً هي المكان الصحيح للعاصمة، عاصمة الدولة، مهما ضلت العاصمة طريقها.

٣. في المنطقة الممتدة من جنوب عدن حتى شمال تعز كان هناك ٢٤ لواء عسكرياً “يحتوي ويكيبيديا على تفصيلات كافية”. كل تلك الألوية العسكرية، باستنثاء وحيد، وقفت إلى جوار الحوثي. من مقر اللواء ٣٥، تعز، خرج قائد دبابة وحيد والتحق بالمقاومة في الأيام الأولى من “الثورة المسلحة” في تعز، وكانت هي الاستثناء الوحيد، والآلة العسكرية الأنثى التي منحت أهل تعز أماناً قلقاً، وحفظت شرف الجيش، وقدمت مثالاً نادراً لكيف يختار السلاح طريقاً طاهراً.
مع الأيام سيطلق على تلك الدبابة اسم “المبروكة” وستعيش وحدها بعد أن خسر الجيش كل دباباته! أما الآن فها هي تصبح أحد أكثر نجوم المرحلة الثانية من ثورة ١١ فبراير، الثورة المسلحة، قداسة وطهارة، وسيعشقها اليمنيون لمئات السنين.

يجري نقاش كثيف حول التكريم اللائق بتلك الدبابة التي حفظت شرف الجيش اليمني إلى الأبد، والتحمت بشوارع الثورة، وحرست التباب الصغيرة والدكاكين، وعملت في نقل الماء والجرحى وفي صد هجوم العصابات. وعلى الأرجح ستصبح تمثالاً في صورتها النهائية، وستنصب في أهم ساحات تعز.

٤. من حق أي مواطن يرى دولته تستلب في وضح النهار أن يعمل على استردادها بكل الطرق. على هذا الحق تنص دساتير وأخلاقيات وأعراف أمم كثيرة، حاضراً وتاريخياً. إذ بسقوط الدولة يفتح باب الجحيم: الخوف، الجريمة، الجوع، وتنشأ العصابات والحروب، وتختفي الحواضر. يأتي نبل فكرة المقاومة من هذه الجهة، كونها محاولة للحيولة دون أن يصل المجتمع إلى حافة الجحيم. وبالطبع فالمقاومة ليست كلمة ناعمة، فهي عملية مسلحة عنفية تستخدم كل الآلات الخشنة وتتدرع بالقوة النارية، وتخوض قتالاً ضارياً. لم تكتشف تعز كلمة المقاومة، فهي موجودة في قواميس ٥٠٠٠ ألف لغة في العالم. كما لم تبتكر تعز لاسم المقاومة معنى جديداً، ولا صيغة جديدة. لم يكن جيفارا كاتب مقالات، ولم يكن نيلسون مانديلا مؤرخاً. كان الرجلان، ومن إلى جوارهما، ينشطان في نصب الكمائن. هكذا تقول مذكرات الرجلين، ومذكرات غيرهما من أبطال المقاومة لدى أمم كثيرة. يعلم كل من يزورون تماثيل المقاومين في الميادين العامة، في كل دول العالم، أن الراحلين لم يكونوا كتبة مقالات، بل زارعي كمائن. توجد استثناءات بالطبع، لكنها ذلك النوع من الاستثناء الذي يؤكد القاعدة.

كان ذلك هو خيار تعز، الانتقال ب ١١ فبراير إلى مستوى أعلى، بعد أن جربت الخروج بالصدور العارية ضد الميليشيات، الصورة اليمنية من الثورة المضادة، في الأيام الأولى.
نتذكر تلك الأيام عندما وقف أبناء تعز بصدور عارية أمام مبنى الأمن المركزي في تعز، معترضين على محاولة الحوثيين السيطرة على المدينة وضد تسليم معسكرات الدولة لعصابات لا تمثل أي قانون. في يوم واحد سقط قتلى كثيرون، وجرحى أكثر، وضربت رصاصات الحوثيين صدور الشباب من وسط مدينة تعز حتى مدينة التربة في أقصى جنوب المحافظة.
في المرة الثانية عندما حاولوا الخروج ضربهم الحوثيون في الصدور، برصاص حي. حاول شباب قليلون في صنعاء، ونسبة كبيرة منهم ينتمون إلى تعز، الخروج في تظاهرة، لكنهم اختظفوا وعذبوا، ولا يزال بعضهم مخفياً حتى الساعة.

أمام عصابة لا تمثل أي مشروعية ولا تستند إلى أي مسودة أخلاقية متحضرة لا بد من شق طريق آخر. على وجه الخصوص حين يتعلق الأمر بفكرة استعادة الدولة. لا ينبغي للمرء أن يتظاهر ضد عصابة، فالعصابات ليست جهة سياسية، والتظاهرات فعل احتجاجي يقوم به “الناخب” ضد ممثليه في الجهات السياسية أو النيابية. أي: فعل مدني ضد ما يعتقد المدنيون إنه انحراف في السياسة. مع سقوط الجمهورية في يد العصابات الحوثية سقطت السياسة كلياً، ونشأ شكل جديد من “دولة خوف” لا يعترف سوى بوسيلة واحدة: تطويع الجميع لرؤية واحدة، وخلق امتثال إجباري لإرادة المنتصرين.

هذه الصورة ليست مثالاً لدولة، ولا لسياسة، وكان لا بد من ابتكار وسيلة لدحرها. الغريزة البشرية، التي حافظت على الكائن البشري على مدى مئات الآلاف من السنين، هي التي تتصدر في اللحظات الحرجة وتشق طريقها. في المشهد الأخير، ودائماً، تنتصر غريزتا البقاء والحرية على غريزتي الاستحواذ والهيمنة. فالأولى غريزة أولية ومركزية، والأخرى غريزة ثانوية و طرفية.
هذا المنطق الذي ساقه بعض كتبة الحوثي في الأشهر المنصرمة، حول معارضة الحوثي من خلال التظاهرات، يناقض نفسه. كما إنه يعكس حالة من البدائية المحضة في فهم صورة الدولة والمجتمع في العصور الحديثة.

٥. كانت تعز تعمل في تأسيس المدارس، والمشاريع الاقتصادية الصغيرة. عندما وقعت تحت الحصار كان أغلب تعز يعيش خارجها، في الداخل والشتات. وجدت المدينة، والمحافظة، نفسها أمام آلة عسكرية ضخمة تجتاحها. لم تكن مجهزة سوى لبناء مزيد من المدارس. استعان الحوثي بـ: الحرس الجمهوري، الجيش، الأمن المركزي، شبكة المؤتمر الشعبي العام، مرتزقة القبائل، وكتائبه المسلحة. بكل تلك الحشود العسكرية حاصر الحوثيون تعز، وبدأوا في اجتياحها.
كانت الصورة واضحة، وهناك من أراد تشويشها منذ الدقيقة الأولى: حشود عسكرية لا تمثل أي قانون ولا تملك أي مرجعية، ولا تعكس أي إجماع! تحاصر مدينة اعتادت على الانضباط والامتثال المتحضر، وخاضت على مدى نصف قرن عملية وطنية شاقة بغية جر الناس إلى الدولة والحكم الرشيد. المدينة التي أسست للثقافة والسياسة والاقتصاد والتنوع الخلاق وقعت فجأة، وبلا مواعيد، تحت حصار بلا أخلاق. تبلبلت الألسن على مداخل تعز، وكان المحاصرون يتحدثون عشرات اللهجات، وكان بمقدور تعز القول إن المحاصرين القادمين من كل الجمهورية هم هدية الجمهورية لهذه المدينة نظير كفاحها الوطني المستنير لأجل الجميع. بيد أنها لم تقف عند هذه الملاحظة، وقررت سلوك غير طريق الضجيج.

كانت المهمة كالتالي:
أن يمنع أهل المدينة/ المحافظة الحوثيين من تحقيق نصر. بالنسبة لمدينة، لا علاقة لها بالحروب ولا العصابات، فتلك هي مهمتها الجليلة والحاسمة، وهي النصرعينه. ١٢ شهر من الحصار الضارب، الذي بلغ حد انتظار والدتي، شخصياً، لأكثر من شهر كامل حتى يصل علاج الإنسولين من صنعاء إلى منزلها. فقد مر العلاج عبر طريق شاق، ومخيف، بدا أطول من طريق الحرير! وفي كل مرة كنت أسألها ماذا إذا كان بقي لديها شيء من الإنسولين وأقراص الميتفورمين، وكانت تقول إنها تقتصد بالموجود!

بعد ١٢ شهرا تعب المحاصِر، وحاصرت المدينة حصارها. ١٢ شهرا من القصف العشوائي بكل الآلة العسكرية، من محاولات الاختراق، من الحشد.. ١٢ شهرا من الحصار، بلغ حد إغراق المدينة في العطش والجوع.. ١٢ شهرا من العمليات العسكرية المتكررة من الجهات كلها، حد إجراء عملية التفاف كاملة على جبل صبر والوصول إلى منطقة المسراخ من الجهة الجنوبية الغربية للمدينة .. فشل الحصار، وفشلت الآلة العسكرية الحوثية، وفشلت جيوش صالح وانهارت شبكة المؤتمر الشعبي العام المسلحة.

انتصرت تعز أولاً عندما منعتهم من دخول المدينة، ولأنها استقبلت أكثر من خمسين ألف قذيفة مدفعية وصاروخية في مساحة جغرافية صغيرة، وعلى مدى عام كامل ولم تنهزم، ولم تفتح الأبواب. كان ذلك هو النصر، ولم يكن مطلوباً من مدينة الدكاكين والأكشاك والمدارس أن تخرج لتهزم الجيوش. تلك ليست مهمتها. لكنها، مع ذلك، فعلت. فعلت في المشهد الأخير وخرجت وسحقت المحاصرين بكل ترسانتهم وألقهم في طريق السيول والمهانات. ما إن تعب المحاصرون حتى خرجت تعز كأنها خلقت البارحة، شجاعة وفتية ونشطة ولا يُرى عليها أثر الجوع والعطش والجروح.

لا يمكن لأحد أن يهون من الوزن السياسي والنفسي لانتصار تعز على الانقلاب/ الثورة المضادة. لقد أسدت صنيعاً جميلاً للربيع العربي، كعادتها.

المرحلة الأولى: خرج العشرات من الشباب وسيطروا على بضعة شوارع في المدينة. في المرحلة الثانية انضم إليهم عشرات آخرون وصاروا بالمئات فسيطروا على مزيد من الشوارع. لما كان الحوثيون يرفعون مستوى حشودهم كان المقاومون في تعز أقل من ٥٠٠ شاب، وكان الكتاب والناشطون، الذين يعتقد الحوثي أنهم لا يشكلون ضرراً عليه، يصفونهم بالعصابات المسلحة/ طلائع القاعدة ويقولون إنهم سيتسببون في دمار المدينة.

ظهر مبارك البحر في جبل صبر، وعرفات دماج في وادي الضباب وتأسست جبهتان جديدتان. انتصرت جبهة عرفات دماج، بعد أن صارت جزءاً من حزام عسكري ناشئ، وانتصرت جبهة مبارك البحر في جبل صبر بعد أن صارت جزءاً من حزام مقاوم عسكري ومدني. بعد أشهر قتل الشابان في عمليتين منفردتين تهدفان لتحرير جامعة تعز. قتلا بالقرب من الجامعة.
كعضو هيئة تدريس في جامعة تعز أقترح أن تسمى كليتان في الجامعة باسم الفدائيين العظيمين: عرفات دماج ومبارك البحر.
في المرحلة الثالثة طرد الحوثيون من وسط المدينة واستعادت المقاومة قلعة القاهرة ومرتفعات وشوارع جديدة، واستعادت المباني الإدارية التابعة للدولة، كمبنى المحافظة. هكذا خرجت تعز، تدفع العصابات خطوة خطوة إلى الوراء في عملية فدائية مؤلمة سقط فيها آلاف الشهداء والجرحى، وقوض البنيان وانتشر الجوع والفقر والخوف، وصولاً إلى الحادي عشر من مارس ٢٠١٦. في ذلك اليوم استكمل تحرير المدينة بالكامل، وأكثر من ٩٠٪ من المحافظة. بقي الحوثيون في مدخلين: الطريق المؤدي إلى صنعاء، والطريق المؤدي إلى الحديدة. تلك مسؤولية الجيش حديث التشكيل..

٦. المهمة الآن:
عودة المحافظ وفريق عمله إلى المحافظة، ودعوة الحكومة إلى العودة إلى تعز. تعز هي الجمهورية اليمنية، وهذه ليست مبالغة. فهي صانعة السياسة وصانعة المقاومة وصانعة الثورة. في كل لحظاتها، في انتصارها وانكسارها، لم تهتف سوى لوطن يسع كل الناس. إذ تعلم تعز جيداً أنها محافظة/ أمة كبيرة، والأمم الكبيرة لا تقامر

٧ . لا تسدوا نصحاً لتعز، فهي تعلم ما الذي عليه فعله. صدقوني، تعلم جيداً. فقبل أيام، قبل انطلاق عملية التحرير الكُبرى، كنت على تواصل مع قيادات شبابية في تكتل مسلح منح اسمه اسم “مجموعة عرفات دماج”، ويتشكل في الأساس من أبناء جبل صبر. قال أحد المقاومين بحماس “سنمرغ أنف الروافض في الأرض، ونحن ننتظر الإشارة وستكون طريقنا إلى الجامعة”.
قلت له بصورة قاطعة:
ما شأنك بالروافض، ولماذا تستخدم هذه الكلمة السامة في الأساس. نحن شعب يريد وضع حد للهمجيات، أياً كانت صورتها، ويستعيد دولته.
لم يجهد نفسه في فهم ما قلته. على العكس من ذلك، كان ما قلته له هو ما يؤمن به لكنه فقط، في لحظة حماس، استخدم الكلمة الخطأ.

٨. انتشرت مكالمة مسجلة بين مقاوم، من الذين استعادوا جامعة تعز، ووالدته. كان مبتهجاً ومنتشياً وهو يقول له:
يمه، أنا فدالك، أنا الآن داخل جامعة تعز، جامعة تعز معانا يمه.
بينما ترد عليه الأم بهدوء وقلق:
“الله يحفظكم بحق الجمعة الجامع والدعوة السامع”

بهذه الدعوة أختم مقالي.

م. غ.

لا توجد مقلات اخرى

لا توجد مقلات اخرى

الاخبار العاجلة
نستخدم ملفات الكوكيز لنسهل عليك استخدام الموقع ونكيف المحتوى والإعلانات وفقا لمتطلباتك واحتياجاتك الخاصة، ولتحليل حركة الزيارات لدينا.. المزيد
موافق