منذ أكثر من عشر سنوات، وموضوع التمويل الإيراني لأنشطة «حزب الله» هو واحدٌ من العناوين الاعتراضية الشعبية في الداخل الإيراني.
فبالدرجة نفسها التي يجمع فيها الإيرانيون على هدفية التحول إلى القوة الإقليمية الأهم في المنطقة، التي يجمعون فيها على محورية المشروع النووي لأجل ذلك، تراهم منقسمين حول الموقف من «حزب الله».
لم تكن هذه هي الحال في التسعينيات من القرن الماضي، لأن الحزب وقتها كان يتصدّر مشهد المواجهة مع الاحتلال الإسرائيلي، ولأنه على ولائه لولاية الفقيه، والتزام قسم كبير من محازبيه تقليد المرشد علي خامنئي (وهذا يبقى مسلكا أقليا بين شيعة لبنان رغم الهيمنة السياسية والشعبية والعسكرية للحزب)، إلا أن الحزب كان يتحاشى أخذ طرف في الاستقطاب الايراني الداخلي بين «المحافظين» و«الإصلاحيين»، واحتفل جماهيريا بزيارة الرئيس محمد خاتمي للبنان في المدينة الرياضية.
تبدّل الأمر في المرحلة التالية، وخصوصا بعد «الثورة الخضراء» عام ألفين وتسعة، فصار الحزب طرفا في النزاع الداخلي، ومريدا لظاهرة محمود أحمدي نجاد، تلك الفقاعة «الحرسية» المستعجلة تاريخ الخلاص وعلامات ظهور القائم.
وتفاقم الأمر مع استفحال آثار العقوبات الاقتصادية في الجمهورية الإسلامية، حتى صار تمويل الحزب يبدو كهدر لمال الشعب الإيراني بالنسبة للمعارضين، بمن فيهم المعارضون من داخل المؤسسة الحاكمة.
مع ذلك، وقبل الكلام الأخير للسيد حسن نصر الله، الذي يقول فيه إن كل تمويل حزبه سلاحا وأكلا وشربا من إيران، لم يصدر رسميا تصريح من هذا القبيل في إيران، إيران التي لا تزال تنكر بالمناسبة دعمها وتمويلها لمليشيات الحوثي في اليمن.
أنصار إيران في اليمن يقولون إن فلسا واحدا لا يصل إليهم من إيران، وأنصارها في لبنان يقولون إنها تغدق عليهم الأموال والعطايا، وهي المصدر الوحيد لما يقتنونه من سلاح، ولما يحصّلونه من ثروات للخاصة ومخصصات ونفقات للجهاز والمسلّحين وعوائل الشهداء. في الحالتين ثمة ما هو غير دقيق. إيران تموّل الحوثيين بنسبة كبيرة، و«حزب الله» لا يستمدّ كل ماله من إيران، بل إن الشبكة المالية المرتبطة بالحزب، أدّت دورا حيويا لتوريد العملة الصعبة إلى إيران، وتحديدا إلى الحرس الثوري فيها ومكتب المرشد على امتداد السنوات الماضية.
إيران تموّل «حزب الله»: هذا شائع وبديهي. «حزب الله» يموّل إيران: هذه هي القطبة المخفية. ومن متفرعاتها: تمويل حركة «أنصار الله» الحوثية يمرّ مثلا بالشبكة المالية لـ«حزب الله».
فكما لبنان في مواويل «الخصوصية اللبنانية»، كذا «حزب الله». إنه «همزة الوصل» بين الشرق والغرب، طيلة فترة العقوبات الغربية على إيران، وله «اقتصاديات موازية» في لبنان والمهجر، وهذه تؤمن نسبة معتبرة من التمويل الذاتي.
النقطة الثانية المحتجبة في الكلام الأخير، هو الزعم بأن كل ما يصل من إيران من نفقات لا يمر من خلال التحويلات المصرفية، وانما بالحمام الزاجل. ما يريد الحزب قوله بالتالي إنه لا يتضرر كحزب جراء العقوبات المصرفية عليه، وإنما يتضرر المحسوبون عليه بسبب انتمائهم المذهبي، وبالتالي يجري استهداف الطائفة الشيعية من خلال هذه العقوبات، كونها تتعامل مع النظام المصرفي اللبناني والعالمي، في حين أن الحزب ينأى بنفسه عن هذا النظام، وكل ما عنده بصدده مسألة كرامة ودفاع عن أرزاق الناس غير المنتمين بالضرورة إليه. هذه النقطة تحديدا يفترض الاستنفار لتفنيدها بالرقم والدليل المتاحين، فهنا لا ينفع التحليل وحده. لكن شرط ذلك عدم انطلاء الحيلة، حيلة الزعم بأن إيران تموّل كل أنشطة الحزب، وبأن التمويل هذا يرده من خارج النسق المصرفي. استخدام المجالات المصرفية محوريّ بالنسبة لكل الجماعات المصنفة «إرهابا دوليا» بالنسبة للحكومات الغربية، وكلّها تدّعي عكس ذلك، وكلّها تكبّر عناصر حقيقية للتغطية على أخرى، فلا تنظيم «داعش» يقيم ماليته خارج النظام المالي والمصرفي العالمي، ولا «القاعدة»، ولا «الفارك» في كولومبيا. أمّا «حزب الله» الذي يستفيق على مهاجمة «حيتان المال» بين الفينة والفينة، فإنّه يعتنق «السرية المصرفية» بشكل حماسي كليا، حين يتعلّق الأمر بمصالحه ومسالكه.
في مكان ما، اقتصاديات الحزب على صورة اقتصاديات لبنان، وشبكته المالية تحاكي النظام المصرفي اللبناني، وفي مكان آخر، وحدها «الشطارة الفنيقية» هي التي تجعله يسوّق لمقولة لا تصمد كثيرا أمام الفحص، وهي أن كل تمويله من إيران. لا ليس كل تمويله، وكامتداد للحرس الثوري الإيراني هو يسهم في «الرئة المالية» للحرس، ولهذا الحرس أرصدة وأسهم وشركات ومصالح في البلد، وبعضها حيث لا يخطر على بال.
(صحيفة المستقبل اللبنانية)