يوما بعد اخر تتطور ظاهرة الشعوذة والتنجيم في اليمن، ضاربة في عمق المجتمع اليمني، على الرغم من انتشار التعليم ووصوله إلى بعض أرياف البلاد، إلا أن الظاهرة تنتشر بشكل كبير وملفت.
ويغيب الموت اليوم في اليمن شباب كثر، ليس برصاصات الحرب التي ما تزال تفرض نفسها في أرجاء البلاد منذ ما يقارب الثلاثة الأعوام؛ بل على يد مشعوذين يدعون علاج الكثيرين بالقران.
وأعاد قتل مشعوذين في كثير من مناطق اليمن، لشباب وشابات، خصوصا في مناطق الجنوب، طرح سؤال حول حدود رقعة ظاهرة الشعوذة والسحر في اليمن، ومن هي الفئة أو الفئات الاجتماعية التي تتفاعل معها.
في محافظة الضالع جنوب اليمن، عجز أفراد أسرة منتصف الشهر الماضي، من إنقاذ ابنتهم البالغ من العمر (18عاما) بعد أن قام أحد المشعوذين بخنقها لعدة مرات بهدف إخراج الجني الذي يسكنها.
أقرباء الشابة أكدوا وفاتها خنقاً على يد شخص يدعي علاج المس بالقرآن، وقالوا إن الشيخ قام بربط عنق الشابة بشال وشده بقوة لمرات متتالية حتى انقطعت أنفاس الفتاة، وتحول لونها إلى الأزرق، متجاهلاً تحذيرات بعض من ذويها ممن حضروا جلسة العلاج، مدعياً خنقه لـ “الجني” الذي يسكن جسد الفتاة.
وأشار الأقارب إلى أنهم تدخلوا بعد فوات الأوان، وحاولوا إنقاذ الفتاة، لكن أنفاسها كانت قد انقطعت تماماً.
وتفيد مصادر في الضالع لـ “الموقع بوست” بأن هذه واحدة من عشرات الحالات التي تكرر حدوثها في مناطق الضالع وبعض المحافظات الأخرى المجاورة.
يقول الصحفي والناشط الحقوقي في عدن، عدنان الجعفري “الشعوذة والتنجيم وما يكتبه الفقهاء كان قد تراجع قبل سنوات في مناطق جنوب اليمن التي كانت قد انتشرت فيها بقوة، وبدأت تتلاشى بعد أن تعرض العديد من فقهاء الشعوذة للمضايقة والملاحقة من قبل تيار تنظيم القاعدة، واليوم في المحافظات الجنوبية صار المشعوذين، يمارسون مهنتهم بطريقة سرية، وبخوف شديد، حتى لا يعلم بهم ما بات يسمى (بالإسلاميين والجهادين) وقد سبق لهذه التنظيمات وأن أعدمت مشعوذين كانوا يمارسوا الشعوذة بالشكل العلني”.
ويضيف الجعفري في حديثه لـ “الموقع بوست”: “ما هو منتشر وبشكل مخيف بات يقلق الناس هو انتشار قارئين القران على المرضى الذين يصابون بالمس والعين والسحر، لأنهم يمارسون بعضهم عملية قراءة القران على المريض ويستخدمون العنف مثل الضرب والتعذيب بواسطة الكهرباء معتقدين إنهم يعذبون (الجن المتلبس بالمريض) بينما في الحالات أوقعت ضحايا وأودت بحياة الكثير من الناس المصابين بالمرض وانتهت بهم الى الموت”.
تدهور الخدمات الصحية أحد الأسباب
وفي ظل تدهور القدرات الطبية لوزارة الصحة العامة وعدم قدرتها على القيام بدورها الأساسي، المتمثل برعاية المجتمع صحيا، وتقديم كل الخدمات الصحية للمواطن اليمني، أعاد الماضي إنتاج ذاته وأصبحت الشعوذة في اليمن أحد الأنشطة المتنامية، في ظل فراغ الجهاز الطبي في القيام بدوره. إضافة الى ذلك الجهل والفقر وتوفر القناعة لدى بعض افراد المجتمع وايمانهم بالتعافي على يد هؤلاء المشعوذين.
يقول عمر القاضي، صحفي لـ “الموقع بوست”: “ما تزل اليمن بيئة خصبة لازدهار الشعوذة، وهذا يعود لأسباب عده اولاً الجهل والتخلف، وثانيا هناك ايمان لدى اغلب الجيل السابق الذي مازال يصدر تأويل وخزعبلات الشعوذة، كحقائق مؤكدة، وايجابية، لأجيالهم الذين يعيشون في هذه المرحلة”.
أما السبب الثالث، وحسب القاضي، فيتمثل بعدم التماس المواطن اليمني، البديل المتمثل بالطب المتطور بتقنيته المختلفة، وإن توفر قليلا، فيكون بمبالغ باهظة وطائلة”.
ويضيف “والحقيقة هو أن الاهالي لم يجدوا تطمينات من العاملين في القطاع الصحي، وفي الوقت نفسه المرضى لم تتولد داخلهم قناعه بذلك، لذا يفضلوا ما هو معتاد ويدفعون مبالغ بسيطة احيانا للمشعوذ، في حين ان بعض من يمارسون المهنة يفرضون مبالغ مالية كبيرة خصوصا عند حصولهم على الشهرة”.
ويتابع القاضي “أغلب المؤمنين بالمشعوذين ستجدهم مرضى نفسيين، وحاله اكتئاب، ومصابين بالوسواس القهري والقلق والضغط النفسي، وهذا يرجع إلى الفراغ القاتل الذي يعيشه المجتمع اليمني، أيضاً عزوفهم عن التعليم والقراءة والانشغال، وإيمانهم بالحكايات والقصص الخرافية التي تراكمت لتصبح شبه حقائق يؤمن بها البعض”.
النساء الشريحة الأكبر ترددا على المشعوذين
لا توجد قوانين تشريعية تمنع ممارسة الشعوذة والسحر في اليمن، على الرغم من الضرر البالغ الذي تلحقه الظاهرة بالنسيج المجتمعي والعلاقات بين الأشخاص.
وبحسب مسح أجرته منظمة نسوية أهلية -غير رسمية -في العاصمة المؤقتة عدن، فإن ما قيمته 50 مليون ريال يمني ينفقها، سنوياً، طالبو “علاج” على جلسات وتعاويذ وأدوية في محافظات عدن ولحج وأبين والضالع.
وتفيد نتائج المسح إلى أن غالب رواد هؤلاء المشعوذين هن من النساء، اللائي تلجأ الغالبية منهن إلى الدجالين طلباً لـ “تطويع” الزوج ومعرفة علاقاته النسائية خارج إطار البيت والاسرة، فيما تتسلل العديد من العازبات خلسة إلى المشعوذين لعمل “سحر” لمن يرغبن في الزواج منهن، وفي كثير من الأحيان انتقاماً ممن اختاروا أخريات بعد علاقات طويلة معهن.
الظاهرة في أوساط المتعلمين
تتعدد أسباب اللجوء إلى العرافين بحسب المعتقدات والقناعات الشخصية، ولا صلة للأمر إطلاقاً بالثقافة والمكانة الاجتماعية؛ فالمسح يقول إن “من بين المترددين على عرافين في محافظة لحج حملة شهادات عليا، وأساتذة جامعات، وفتيات يُصنّفن مجتمعياً من الطبقات الراقية”.
وبحسب حديث أحد القاطنين بالقرب ممن يمارسون السحر والشعوذة، فإن الأشخاص الذين يترددون على بيت المشعوذ، يمثلون مختلف الشرائح الاجتماعية اليمنية غالبا، وأكثرهم مسؤولون في الدولة وضباط في الجيش ومعلمون وغيرهم، بمعنى أن المصيبة لا تقتصر على الأميين فحسب؛ بل أنها تطال الثقفيين أيضا.
في حديثها مع “الموقع بوست” تقول الناشطة الحقوقية، بلقيس العبدلي “يتجه اليمنيون إلى المشعوذين بالأخص النساء في أوضاع سيئة تمر بها البلاد خلطت الحابل بالنابل، وهذا لا يعني أن هذه الظاهرة حديثة بل هي أحد الظواهر الاجتماعية المتوغلة في القدم في مجتمعنا اليمني، لكن الغريب هو بقاء الظاهرة مستمرة، رغم انتشار التعليم، بل وجد أنه بين أوساط المتعلمين أنفسهم تجد هذه الظاهرة رواجاً كبيراً”.
وترجع العبدلي، أسباب ذلك، إلى الثقافة المجتمعية، قائلة: “بين أوساط النساء مثلاً تذهب المرأة الى المشعوذين لتتزوج إذا تأخر زواجها، ثم تذهب لتفك سحر يؤخر حملها، ثم تذهب لتعالج المشاكل التي تنشب بينها وبين زوجها، أو بين أبنائها، وتداول هذه الأفكار بين النساء وتداول قصص كانت نتائجها إيجابية تجعل من تجربة مثل هذه الأمور أيسر الطرق في مجتمع زادت فيه المشاكل الاجتماعية وتفكك نسيجه وتداعت أركان روابطه بسبب قسوة ظروف الحياة بالأخص منذ نشوب الحرب”.
وتضيف “تدهور وتردي مستوى الخدمات الطبية في اليمن بدءاً من التشخيص وصولاً الى العلاج ساهم في انتشار هذه، الظاهرة وتفاقمها ليطرق الناس أبواب السحرة والمشعوذين طلباً للشفاء من أمراض تفاقمت بسبب سوء الخدمة المقدمة من المؤسسات الصحية أو عدم تحديد أسبابها ومعرفة علاجها”.
وتشير المتحدثة، الى أن الخلط ما بين استخدام القران الكريم كدواء روحي يزيد من رفع الطاقة الإيجابية ويعمل على بث الاستقرار والرضا في النفس البشرية، والذي يمكن للإنسان الحصول عليه بتلاوته أو سماعه، وبين احتياجات العلاج الفسيولوجي حول هؤلاء المشعوذين الى مرتزقين على حساب العامة والبسطاء.
عدم توفر طب متخصص
انتشار الأمراض النفسية، والتي تحتاج الى مختصين ومراكز صحية متخصصة لا وجود لها في اليمن كان أيضاً سبب من حزمة أسباب تفاقم هذه الظاهرة، حسب بلقيس العبدلي، التي تقول، انه مما لاشك فيه أن المجتمع اليمني يعاني من خليط معقد من المشاكل على مختلف الأصعدة، جعل علاج ظاهرة معينة، كالتي نتناولها يتسم بالصعوبة، إذا عولجت بمعزل عن بقية المشكلات سواء الثقافية أو الاقتصادية، أو الصحية، وغيرها، بل أن الأزمات السياسية ساهمت في ذلك ولو بشكل غير مباشر، من خلال انفراط عقد هيبة الدولة، وتنصلها عن مسئولياتها تجاه المواطن مما جعل المستغلين للأزمات يبحثوا على أي فرص للرزق، ولو على حساب المجتمع بل وحياة الناس وأرواحهم كما جعل المواطن أعزل في مواجهة كل مشكلاته، باحثاً عن أسهل الحلول وأقربها اليه.
يحرص زوار المشعوذين، من مختلف الطبقات على السرية والكتمان، وغالباً ما ينفذ الزائر تعليمات العراف بدقة، حرصاً على نجاح الأمر الذي ذهب لأجله، حسب ادعائهم.
وتتراوح طلبات الأشخاص بين السيطرة والتفريق بين أشخاص والهيمنة والتحكم بالمال. وبحسب مسح منظمة نسوية، فقد يصل ثمن التعويذة في بعض الحالات إلى نصف مليون ريال، وربما أكثر، تبعاً لحجم ومكانة الشخص المراد تطويعه بالسحر.
صعوبة محاربة الظاهرة
يجمع عدد كبير من أساتذة الاجتماع في اليمن، أن موضوع الشعوذة والسحر يصعب وضع حد له بشكل سريع، فالأمر لا يتعلق بالأبحاث، بل بمعطى بنيوي للمجتمع.
وللسحر والشعوذة وجود قديم وبارز في اليمن وذلك لارتباطه الشديد بالتراث الفكري اليمني، حسب باحثين اجتماعيين، وبالنظر إلى أسباب تردد بعض اليمنيين على السحر والسحرة، نجد في مقدمتها أيضا “الربط” وهو “وسواس خفي” يصيب الرجال في مقتبل حياتهم الزوجية، ويعمل له رجال اليمن ألف حساب عند إقدامهم على الزواج، لأنه يسبب “الخرس الجنسي” حيث لا يقوى الرجل على مباشرة زوجته بشكل طبيعي.
وحسب أساتذة علم الاجتماع، فأن معظم النساء، يترددن على السحرة والمشعوذين، لربط القلب بالحبيب، أو لزرع الكراهية والكيد بين نساء الرجل الواحد.
لا وجود للقانون
وحول ماهية العقوبة في القانون اليمني لجرائم السحر، يؤكد محامون قانونيون، أنه لا وجود لنص قانوني يجرم الشعوذة والدجل في القانون اليمني، وهذا يستدعي من القاضي أثناء البحث في الجريمة اللجوء إلى أحكام الشريعة الإسلامية.
وبحسب أولئك المحامون، وفيما يتعلق بالسحر إذا ثبت على الشخص بأنه ساحر فإن الحد هو قتل بالسيف.
وبهذا يكون القانون قد نظر إلى الركن المادي فقط لهذه الأفعال باعتبارها طرقاً احتيالية تدخل ضمن جريمة النصب التي نص عليها القانون. فالقانون في هذه الحالة يكون بعيداً عن عقوبات محددة لجرائم الدجل والشعوذة.