“أنا بخير ونحمد ربنا على كل حال يا بني، يبدو أنها أوجاع سبعين عاماً بدأت تظهرالآن وتنال مني”. بهذا الكلام بادرنا ملحن ومغني نشيد الجمهورية اليمنية الفنان أيوب طارش عبسي، عندما سألناه عن حالته الصحية التي تدهورت أخيراً، واضطر لمغادر اليمن إلى القاهرة في رحلة علاجية، ومنها انتقل إلى سلطنة عمان، ومن ثم إلى جمهورية الصين لإجراء العديد من الفحوصات الطبية، والتي قد يستكملها أيضاً في ألمانيا.
تغيرت نبرة صوت أيوب، وهو يتحدث لـ”العربي الجديد”، في اتصال هاتفي، وبدأ سؤالنا له حول المدة التي قد تستغرقها رحلته خارج اليمن، إذْ قال: “معروف بأني لا أستطيع أن أغادر وأترك اليمن، تلك الأرض بلادنا الجميلة، والتي غنينا لها”.
ويعتبر الكثيرون أن الفنان أيوب طارش مدرسة فنية متكاملة، وخصوصاً أنه الفنان اليمني الوحيد الذي استطاع أن يجمع بين الموروث بتطويره وتحسينه، والإبداعات في مختلف المجالات، إذْ غنى للحب والوطن والأرض والإنسان وللمدن، قبل أن يتوجه نحو التصوف كقيمة روحية ثرية، فأبدع في أغان عديدة.
“بالله عليك وامسافر”، هو اسم أول أغنية للفنان أيوب طارش خلال خمسينيات القرن الماضي، وهي التي أكسبت الفنان شهرة واسعة، قبل أن ينتقل إلى عدن ويستقر فيها لسنوات، ويغني عن الغربة، ويجبر المئات من اليمنيين على العودة إلى بلادهم. غادر عدن إلى القاهرة عام 1974 من أجل الدراسة في معهد الموسيقى العربية لمدة عامين.
وشكل الفنان أيوب طارش مع الشاعر اليمني الراحل عبدالله عبدالوهاب نعمان، الملقب بـ”الفضول”، ثنائيا فنياً ناجحاً، ساعدهما في ذلك تشبّثهما بالثقافة المجتمعية نفسها التي ينتميان إليها. وعملا على اختيار كلمات الأغاني بدقة، واستهدفا محيطهما الأقرب لمدينتهما تعز، قبل أن تنتشر أغنيات أيوب في عموم اليمن. واستطاع الاثنان أن يختارا اللغة البسيطة، وأيضاً اللحن الموسيقي المناسب الذي أصبح يحفظه المزارعون والنساء هناك في أرياف اليمن وكل فئات المجتمع.
ويبقى النشيد الوطني “رددي أيتها الدنيا نشيدي”، هو أبرز عمل أنتجه الفنان أيوب طارش على الإطلاق طوال مسيرته الفنية، وهو من كلمات الشاعر عبدالله عبدالوهاب نعمان، حيث تم اختياره بعد قيام الوحدة اليمنية عام 1990 نشيداً رسمياً للجمهورية اليمنية الموحدة، وكان نفسه أيضاً هو النشيد الرسمي لـ”جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية” (جنوب اليمن)، قبل الوحدة.
وإلى جانب النشيد الوطني للجمهورية اليمنية الرسمي، حتى الآن توجد عشرات الأغنيات الوطنية للفنان، والتي لا تكاد تمر مناسبة وطنية دون أن يسمعها اليمنيون بمختلف انتماءاتهم، حيث يطلق البعض على أيوب لقب “الثابت الوحيد الذي يتفق الجميع معه”.
ويرجع ذلك إلى حرص أيوب على غنائه للأرض والوطن، وليس للحكام. ومن أبرزها أغانيه الوطنية “أهلا بعيد اليمن، أنت يا أيلول فجري، دمت يا سبتمبر التحرير، يا سماوات بلادي باركينا، الوحدة الكبرى، حماة الوطن، هذا يومي، لمن كل هذه القناديل”.
وقد ظهر خلال ثمانينيات القرن الماضي عدد من الروائع الغنائية للفنان، منها العاطفية مثل: “لك أيامي” و”طاب البلس”، و”مكانني ظمآن”، و”دق القاع”، و”قلبي يسائلني عليك”، وهنالك في مدينة تعز وبعض المحافظات وسط اليمن يشارك أيوب طارش كل شاب يمني أفراحه من خلال زفته الشهيرة “واصبايا”.
وبالعودة إلى الوضع الحالي لأيوب، فإنه يفضل، كعادته، عدم الخوض في حديث متعلق بالوضع الراهن لليمن غير السعيد والذي عزف له عشرات الأغنيات، كما يفضل عدم توجيه اللوم لأي جهة رسمية غافلة عن الاهتمام به. ويبدو أيوب متسامياً في حديثه، ومتصالحاً مع ذاته، عزيزاً، وهو يقول: ” نحن لا نشكو سوى لله”.
لكن مصادر مقربة من الفنان أيوب، والتي ترافقه في رحلته العلاجية، كشفت في حديث خاص لنا، تفاصيل مؤلمة حول وضع ملحن ومغني السلام الوطني لليمن، وقالت إن وضعه المادي سيئ للغاية، حيث وصل به الحال إلى حد أنه يجد صعوبة في توفير تكاليف السفر، وزيارة القاهرة أحياناً.
وحول طبيعة مرضه، قال أحد الأصدقاء المقربين من الفنان أيوب إنه يعاني من ترهل في أعصاب اليد اليمنى والكتف، وكذلك يعاني من أوجاع في العمود الفقري، وكان قد خضع قبل عشرة أعوام لعمليات جراحية في ألمانيا على نفقة رجال أعمال يحرصون على متابعته بشكل مستمر.
وتضيف المصادر التي طلبت التحفظ عن هويتها، أن رحلة أيوب العلاجية الأخيرة هذه هي على حسابه الشخصي وبمساهمة من رجال أعمال أيضاً، في حين أن الحكومة اليمنية لم تمنحه سوى الوعود، والتقى قبل مغادرته لليمن بوزير الثقافة اليمنية مروان دماج، الذي اكتفى بوعده بنقل خبر مرضه للرئيس اليمني عبد ربه منصور هادي، ولكن لم يصل إلى أيوب أي شيء من تلك الوعود حتى الآن، بحسب ما أكدت مصادر مقربة من الفنان.
وقال الفنان أيوب طارش إن الجالية اليمنية في جمهورية الصين وجهت له دعوة من أجل زيارة بكين وتلقي العلاج الطبيعي هناك، حيث من المقرر أن يتم تكريمه وقضاء فترة نقاهه لبضعة أيام، خصوصاً بعد الأيام العصيبة التي عاشها في اليمن خلال الحرب. بحسرة بالغة وتنهيدة ممزوجة بالوجع، ينهي أيوب اتصاله الهاتفي ويقول: “سأذهب إلى الصين، وسأحاول عمل ما بمقدوري أن أفعله، والباقي على الله”.