على مدى عام، خضعت عملية “عاصفة الحزم” العسكرية في اليمن، ومن ثم تشكيل التحالف العربي، لقراءة اجتزائية من معظم النخب السياسية والثقافية اليمنية والعربية، إذ فسّرت العاصفة حدثاً منجزاً، مبرّرة لدوافع انطلاقها، أو رافضة لها، مكتفيةً، في الحالتين، بمناقشة الأهداف المُراد تحقيقها في اليمن، لتصبح غالبية المقاربات للعملية العسكرية جزءاً من الحرب نفسها، والدعاية الإعلامية المتخلقة منها، بعيدة عن الأطروحات الموضوعية لصالح مزاجٍ شعبويٍّ احتفالي بالحروب؛ تم إغفال مقاربة العاصفة من الأرضية الأساسية المحركة للدول المشاركة في التحالف العربي، وفي مقدمة ذلك دوافع المملكة العربية السعودية وأجنداتها السياسية، بما في ذلك دلالة التوقيت الزمني لانطلاق العاصفة، وظلت كل تلك المسببات في منأىً عن التناول، أو يتم التطرق لها في سياق التحيزات السياسية والطائفية التي ولدتها “عاصفة الحزم”. ومرور عام منذ بدء العاصفة، بكل تداعياتها السياسية والعسكرية في اليمن، وانعكاسها على الداخل السعودي، بما في ذلك تنامي الأزمة الاقتصادية، وما فاقمته هذه العملية الحربية في وتيرة الصراعات الطائفية، ذلك كله يحتم النأي عن التحيّزات ومناقشة المسببات لإعادة تحليل “عاصفة الحزم” حدثاً سياسياً وعسكرياً تاريخياً، بعيداً عن وجهات النظر الأحادية ومسارات الحرب في اليمن.
لم ينطلق قرار السعودية بدء عمليات عسكرية على أراضٍ خارج حدودها، لأول مرة في تاريخها السياسي، في المقام الأول، من تداعيات الأزمة اليمنية، على أهمية ذلك في اتخاذ قرار الحرب، إلا أن هذا القرار يتعارض مع التقليد التاريخي الذي اتبعته المملكة في تعاطيها مع الأزمات اليمنية المتكرّرة، إذ غالباً ما انحصرت السياسة السعودية حيال أزمات اليمن على دعم حلفائها المحليين بالسلاح والأموال من دون التدخل المباشر في الأزمة، وتتجلى تمظهرات هذه السياسة في الدعم السعودي لحلفائها الملكيين ضد الجمهوريين في أثناء قيام ثورة 26 سبتمبر، على أهمية معارضتها حدثاً استثنائياً، كقيام ثورة جمهورية على حدودها الجنوبية، وعلاقات المصاهرة مع أسرة الإمام يحيى حميد الدين قياساً بانقلاب جماعة الحوثي والرئيس السابق علي عبدالله صالح على السلطة الشرعية، إلا أنها لم تتدّخل آنذاك عسكرياً. وتؤكد تلك المعطيات التاريخية أن “عاصفة الحزم” لم تولدها الأزمة اليمنية، بل الظروف الداخلية السعودية، وحوافز الواقع الإقليمي المتداخل في أزمات بلدان عربية أخرى، كالوضع في سورية.
مهما اختلفت آراء المحللين بشأن الأسباب الحقيقية لاندلاع الحروب، فالثابت أن الحرب ظاهرةٌ لا شخصية، تُحدثها دوافع محركة ذاتية وخارجية متعددة، تتضافر، وفق شروطٍ خاصة، لتؤدي، في النهاية، إلى إطلاق آلة الحرب الجهنمية، ما يُحيلنا عند دراسة “عاصفة الحزم” إلى تقصّي المسرح الأولي الذي تخلقت فيه الحرب، أي الساحة الداخلية السعودية، حيث شهدت المملكة تغييرات سياسية جعلت من انطلاق العاصفة أمراً حتمياً.
في ظروف استثنائية، تولى الملك سلمان بن عبدالعزيز الحكم خلفاً لأخيه الملك الراحل عبدالله صاحب هذا التغيير في رأس الأسرة الحاكمة، فضلاً عن إجراءات اتخذها الملك سلمان، وهو الذي أراد اتخاذ وجهة سياسية مختلفة على الصعيد الإقليمي، تختلف عن خط أسلافه، وتسعى إلى تكريس دور إقليمي جديد، تكون فيه السعودية دولة مؤثرةً، باللجوء إلى قوة الردع العسكري، لا المناورات الدبلوماسية وحسب، في خضم تنافسها مع إيران، خصمها التقليدي في المنطقة. حتمت هذه الظروف على الملك الجديد إيجاد (أو استثمار) حدث فارق، حدث يتعدّى في أثره البعد الوطني، ويوحّد الصف الداخلي السعودي في مواجهة عدو خارجي، يتربص بأمن المملكة، ويساعد على بلورة مشاعر وطنية أكثر ديمومةً في أوساط المجتمع السعودي. وبالتالي، يوحّد الاتجاهات السياسية والعواطف الشعبية حول نهج الملك. لم يكن في تلك الحالة، طلب الرئيس اليمني، عبدربه منصور هادي، التدخل العسكري السعودي لوقف قصف الحوثي وقوات صالح على قصر المعاشيق في مدينة عدن إلا إنضاجاً أخيراً لقوانين التاريخ المشكلة للحدث، كما لم يكن الحشد والاستعراضات العسكرية لجماعة الحوثي والقوات التابعة لصالح في الحدود الجنوبية للسعودية إلا محفزاً لظروفٍ داعمة لاتخاذ وجهة العاصفة.
لا شك في أن السعودية نجحت في تكييف الظروف السياسية والإقليمية لصالح قرارها خوض الحرب في اليمن، كما وفقت في منحه الشرعية الأخلاقية اللازمة، وفق ما تراه. بعد اتخاذها قرار التدخل في اليمن على المستوى السياسي الوطني، عمدت المملكة إلى إنشاء تحالف من دول عربية لم تكن، كما اتضح بعد ذلك، على علم بهذا القرار؛ فمنذ الساعات الأولى لانطلاق “عاصفة الحزم” في يوم الخميس 26 مارس/ آذار 2015، وقبل أن يلتئم عقد دول التحالف العشر المتدخلة في اليمن، وقبل امتصاص المجتمع الدولي، خصوصاً أميركا وبريطانيا، صدمة قرار التدخل، ثم مباركتهما القرار السعودي بعد مضي نهار من بدء الغارات، حاولت السعودية عبر وسائلها الدبلوماسية تطمين المجتمع الدولي والإقليمي، بإظهار أن هذه الحرب خاطفة، غير شاملة، وستكون مزمنة ومحددة الأهداف، تهدف إلى تدمير منظومة الصواريخ التي في حوزة الحوثي وصالح، إلا أن الإجراءات الحربية التي اتخذتها السعودية، بدءاً بإعلان الأجواء اليمنية منطقة محظورة، وفرض حصار بري وبحري وجوي على الأراضي اليمنية، والاضطلاع وحدها بمسؤولية إخلاء جميع الدبلوماسيين والمواطنين العرب والأجانب من اليمن، هي إجراءات تنطبق على مفاهيم الحرب الشاملة، وليس الخاطفة، إذ بعد عام طويل من الحرب، لا يزال من غير الممكن التنبؤ بنهايتها.
لم يكن نجاح السعودية في حسم خيار التدخل في اليمن ناجماً عن حصولها على غطاء دولي أو اقليمي او حتى عربي، فعلى الصعيد العربي، جاء قرار القمة العربية وموافقتها على التدخل السعودي تحت مظلةٍ عربيةٍ، تم اختراعها لاحقاً، وفقاً لاتفاقية الدفاع المشترك، بعد يومين من انطلاق “عاصفة الحزم”، وهو ما يعكس تواطؤ القوى الإقليمية والدولية، وقبوله اعتبار هذا التدخل آخر وسيلةٍ للعلاج بالكي للصراع اليمني، ففي موازين السياسات الإقليمية والدولية، ليست اليمن دولةً ذات ثقل سياسي واقتصادي، بحيث يؤدي هذا العمل العسكري إلى تداعيات إقليمية خطيرة، وتضارب مصالح هذه الدول، كما الحال في الأزمة السورية، إذ لم يتم الالتفات للصراع اليمني منذ بدايته، وأثره الكارثي على حياة اليمنيين. لم يكن المجتمع الإقليمي والدولي معنياً بحل أزمة الصراع السياسي في اليمن. لهذا لم يتم التحرك بعد أن أسقط الحوثيون وصالح صنعاء في سبتمبر/ أيلول 2014، وجاء التدخل العسكري السعودي فقط لردع التغول الحوثي، وفي إطار التنافس مع إيران الحليف الرئيس للحوثي. ومن المنطلق نفسه، قاربت هذه الدول “عاصفة الحزم” ليس بانعكاساتها على الداخل اليمني، بل من وجهة النظر السعودية، وهذا ما دفع المغرب إلى إعلان تضامنه مع السعودية، وكذلك حرص أميركا وبريطانيا على التأكيد على جهودهما في الدفاع عن أمن السعودية المعتدى عليها.
على الرغم من نجاح الدبلوماسية السعودية في تخليق فضاء داعم لها، تثبت المعطيات الميدانية لعام من العاصفة أن قرار الحرب لم يكن مدروساً جيداً في بعض جوانبه، ما اتضح في كيفية تشكيل التحالف العربي، ولا على اعتراض بعض الدول، مثل باكستان، وتضارب الموقف المصري، أو نوعية الحرب التي فرضت على اليمن، بل تجلى التخبط بشكل أكثر في السياقات التي صاحبت مسار العمليات العسكرية لعاصفة الحزم، وتحديداً في الاستراتيجية العامة والتكتيكات العسكرية التي استخدمتها طوال عام من العاصفة.
سوّقت السعودية استراتيجيتها في هذه الحرب وفق تأويلات حلفائها اليمنيين وأمنياتها، وكان الهدف المعلن هو القضاء على تمرد الحوثي وصالح، وإعادة الشرعية إلى اليمن، بينما ظلت أهدافها الوطنية والإقليمية غير معلنة، وكان يتحتم ترجيح أهمية المكاسب المأمولة، قياسا للضرر العام الذي سيلحق بعموم اليمنيين، وليس بالحوثي وصالح فقط. وفي تصريح مستشار مكتب وزير الدفاع السعودي، العميد أحمد عسيري، في اليوم الثالث من الحرب، أن أهداف “عاصفة الحزم” قد تحققت، وتم القضاء على منظومة الصواريخ اليمنية، وإنهاء تهديد الحوثي وصالح على الأراضي السعودية، وهو ما يتعارض مع استمرار شن الطيران غارات على المواقع العسكرية نفسها طوال عام. وهناك إعلان عسيري المفاجئ، في 22 إبريل/ نيسان الماضي، إنهاء “عاصفة الحزم” وبدء مرحلة “إعادة الأمل”، من دون أن تحقق أهداف حلفائها في اليمن، أو تعيد الأمل إلى اليمنيين. وفي الحروب، لا يمكن الانتقال من مرحلة إلى أخرى، من دون أن تكون الأهداف المنجزة من تلك المرحلة متحققة، ويرافقها كذلك تغيير ملموس في التكتيك الحربي المتبع، إلا أن أياً من ذلك لم يحدث في “عاصفة الحزم”، فقد ظلت العمليات العسكرية لغارات الطيران تستهدف الأهداف نفسها، ولم تنتقل إلى هدفٍ عسكري آخر، واستمر التكتيك الحربي كما كان منذ بدء الحرب، ينهض على جهود فصائل المقاومة اليمنية وتمويلها بالأسلحة، مع تدخلاتٍ ثانوية لقوات برية من دول أخرى، كما اقتصر التخطيط الحربي في إدارة جبهات الحرب على فتح جبهاتٍ متعددةٍ ومتزامنةٍ، للتضييق على مليشيات الحوثي وقوات صالح، إلا أن فتح هذه الجبهات، وبالتالي تحريرها، لم يكن ينطلق من الأولوية لهذه المناطق المتضّررة من قصف مليشيات الحوثي وصالح، بل وفق تحيّزاتٍ سياسيةٍ وتفضيلات لفصائل وقوى سياسية يمنية.
منذ اليوم الأول في انطلاق “عاصفة الحزم”، لم تتوحد ملامح استراتيجية واحدة للتحالف تدير مخلالها الرياض الحرب في اليمن، وتكون وحدها المسؤولة عن تبعات المعارك وكيفية إداراتها، إذ بدا واضحاً من سير العمليات العسكرية في مدن المواجهات أن هناك تضارباً بين الأهداف الإماراتية والسعودية، وقد تكشّف في التناقض على مستوى إدارة العمليات الحربية والتمويل العسكري للحلفاء اليمنيين، والذي وصل أحياناً إلى تنافس بين البلدين، ما أدى إلى تعطيل تحرير بعض المدن اليمنية، مثل تعز، أو استثمار تحرير المدن لأهدافٍ تخدم دولة ما، وهو ما وسم العمليات العسكرية في أثناء تحرير مدينة عدن، كما برزت أخطاء التكتيك الحربي الذي لم يكن أيضاً موحداً تحت مظلة التحالف، وأسهم في مفاقمة معاناة اليمنيين، وزيادة الصراعات الفئوية في صفوف حلفائها المحليين، ما جعل البيئة اليمنية مهيأة لتمدّد التنظيمات الجهادية، مثل داعش والقاعدة.
يمكن التأكيد هنا، وبعيداً عن انزلاق الحرب في اليمن إلى حالة استنقاع لكل الأطراف المتحاربة، أن السعودية استطاعت تحقيق أهدافها التي قامت من أجلها “عاصفة الحزم”، ومنها استثمار النزعة العروبية والإسلامية في مواجهة إيران، كما نجحت السعودية في إعادة تقديم نفسها قوة إقليمية قادرة، متى ما أرادت، على تنظيم شؤون حديقتها الخلفية وضرب العُصاة، وحتى المضي أبعد من ذلك، كما حصل مع سورية، حيث تؤكد عمليات “رعد الشمال” التي انطلقت، أخيراً، حرص السعودية على إظهار مخالبها؛ كما أن المملكة حققت استراتيجيتها عبر تطمين حلفائها اليمنيين بتقليم طموح الحوثي وصالح، وحصولها، في المقابل، على الحق الحصري في فرض شروطها على أي سلطةٍ سياسيةٍ في اليمن مستقبلاً.