تمضي الأيام بالنسبة للمتفاوضين اليمنيين في الكويت سريعا وبلا جدوى. بينما الأيام ذاتها بطيئة ومؤلمة بالنسبة لأهل اليمن الذين يمنون النفس بأخبار جيدة تنتج عن هذه المفاوضات التي يدعمها التحالف بكل ما يملك من جهد ومال وهدأة بال، حفاظا على الأرواح وتمكينا لسلم محتمل ولو كان بنِسَب ضئيلة. ولكن تعنت الانقلابيين والمخلوع صالح وإصرارهم بإيعاز من طهران على كسب الوقت لأخذ أنفاسهم على الأرض، ولإعادة اختراع العجلة الشرعية التي انقلبوا عليها، يضع العصا في منتصف العملية السياسية عن سابق إصرار. في الوقت الذي يكاد ينفد فيه صبر الحكومة الشرعية وحلفائها بقيادة السعودية من خروقات عسكرية وانتهاكات إنسانية لم تتوقف رغم التزام التحالف بكامل المواثيق الأممية.
“شرعية” انقلابية
من جهته، استمر وفد الحكومة الشرعية في التأكيد على ضرورة تطبيق المبادرة الخليجية وآليتها التنفيذية وقرارات مجلس الأمن ذات الصلة ومخرجات الحوار الوطني واتفاق السلم والشراكة، ولتحقيق ذلك طالب بحل اللجان الثورية، وتسليم الأسلحة الثقيلة والمتوسطة للحكومة الشرعية، ودعا إلى انسحاب الحوثيين من المدن، واستعادة مؤسسات الدولة، وإزالة آثار الانقلاب، وما ترتب عليه من السيطرة على الدولة ومؤسساتها، واستئناف العملية السياسية من حيث توقفت بمناقشة مسودة الدستور.
في المقابل، فإن وفد الحوثي- صالح ركز على الالتفاف على شرعية الجانب الحكومي، وجاهد لإعادة إضفاء الشرعية على ذاته التي نزعتها منه قرارات مجلس الأمن، ومن ثم ظل متمسكًا وبتعنت بضرورة تنفيذ بعض المطالب السياسية قبل تطبيق القرارات الأممية، فدعا للتوافق على مؤسسة رئاسية، وتشكيل حكومة جديدة إمعانا في الانقلاب على الشرعية. وعلى الرغم من إقراره بالمبادرة الخليجية وقرارات مجلس الأمن، فإنه أكد أن ذلك يأتي بعد تشكيل الحكومة التوافقية التي ستتولى كل شيء متذرعا بتسليم الأسلحة إليها.
وباختصار، يرى مراقبون أن وفد الحكومة الشرعية يضع تقديم الحلول الإنسانية في المقدمة بوضع الانسحاب شرطا أوليا، بينما يضع وفد الحوثي -صالح تشكيل حكومة الوفاق الوطني في المقدمة، وبينما يضع وفد الحكومة الشرعية تطبيق القرارات الأممية في المقدمة يضع وفد الحوثي – صالح بناء أرضية جديدة للتفاوض تقوم على هدم القرارات الأممية، لشرعنة حكومة انقلابية جديدة.
جرائم حوثية
وكأن المجتمع الدولي لم ينس بعد جرائم ميليشيا الحوثي التي تمادت فيها الجماعة مع خروج الرئيس اليمني عبدربه منصور هادي من إقامته الجبرية بالعاصمة صنعاء في فبراير 2015، وشعور الحوثيين بأن العاصمة والسلطة قد دانا لهم، لتتوالى التقارير من المنظمات الحقوقية تتحدث عما ارتكبوه من جرائم وانتهاكات طوال أكثر من عام. حيث تعذيب المتظاهرين الرافضين لاستيلاء ميليشيات الحوثي علي السلطة كان محور تقرير لمنظمة العفو الدولية في فبراير 2015، كاشفة عن واقع مؤلم، إذ تذكر دوناتيلا روفييرا، كبيرة المستشارين لشؤون مواجهة الأزمات بالمنظمة، الموجودة في اليمن آنذاك، أن “الحوثيين قد اتخذوا منحى جديدا وخطيرا من الترهيب والعنف لبث الخوف في أواصر أي شخص يحتج على حكمهم”.
وفي السياق ذاته من عدم الالتزام يبدو أن تعهدات عبد الملك الحوثي بشأن عدم تجنيد الأطفال ما دون الـ18 عاما، وإعادة دمجهم في الحياة المدنية، التي قدمها للممثلة الخاصة للأمين العام للأمم المتحدة المعنية بالأطفال والنزاع المسلح، خلال لقائهما في صعدة في 30 نوفمبر 2012، تبخرت، ولم يعد لها وجود، فقد طالب مجلس الأمن الحوثيين في قراره رقم (2216) في أبريل 2015 بـ “إنهاء تجنيد الأطفال، واستخدامهم، وتسريح جميع الأطفال المجندين في صفوفهم”. ومع ذاك لا يزال التجنيد القسري والطوعي التحريضي موثقا من قبل التحالف ومن قبل المنظمات الدولية.
وكانت “هيومان رايتس” قد كشفت في تقرير لها، بتاريخ 12 مايو 2015، أن الجماعة منذ استيلائها على صنعاء، في سبتمبر 2014، كثفت من عملياتها لتجنيد الأطفال، وتدريبهم، ونشرهم، ومنهم أطفال دون الـ15 عاما، وهو ما يعرضهم للملاحقة بتهم ارتكاب جرائم حرب بموجب القانون الدولي، بما فيه نظام روما الأساسي المنشئ للمحكمة الجنائية الدولية.
انتهاكات إنسانية
فيما كانت مدينة تعز شاهدة على جرائم حرب ارتكبها الحوثيون بحق سكانها، وفقا لتأكيدات جو ستورك، نائب المدير التنفيذي لقسم الشرق الأوسط بـ “هيومان رايتس”، الصادرة في 20 أكتوبر 2015، حيث قال: “القوات الموالية للحوثي تقصف تعز دون مراعاة لأمن مدنييها.. على قادة الحوثيين أن يدركوا أنهم قد يواجهون يوما محاكمات على جرائم حرب بسبب إصدارهم أوامر بشن هجمات صاروخية وبالهاون بشكل عشوائي على الأحياء المدنية، أو المشاركة بهذه الهجمات”.
لكن الواضح أن القصف المدفعي والصاروخي لم يكن أداة الحوثيين الوحيدة لارتكاب جرائمهم بحق المدنيين، حيث يذكر ستيف جوس، مدير قسم الأسلحة في “هيومان رايتس”، في تقريرها الصادر في نوفمبر 2015، أن “الحوثيين يقتلون المدنيين، ويتسببون في تشويههم بالألغام الأرضية المضادة للأفراد، وهي أسلحة عشوائية يجب عدم استخدامها تحت أي ظرف، وعلى قوات الحوثيين التوقف فورا عن استخدام هذه الأسلحة المروعة، واحترام التزامات اليمن بموجب معاهدة حظر الألغام”، وهو ما دفع المنظمة لمطالبة مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة بإنشاء لجنة دولية مستقلة للتحقيق في هذه الانتهاكات الخطيرة لقوانين الحرب.
تحريض إيراني
وكعادة طهران لا يمكنها أن تغيب عن مشاهد الفتنة والعنف والتحريض المتنامي في العالم العربي من لبنان إلى اليمن مرورا بالعراق وسورية. ليصرح أحد أكبر مسؤوليها علانية بعد مرور أقل من شهر على سيطرة ميليشيات الحوثي على العاصمة اليمنية صنعاء، بصفته الأمين العام للمجمع العالمي للصحوة الإسلامية الإيرانية، علي أكبر ولايتي، في الـ18 من أكتوبر 2014، في ملتقى حضره علماء الزيدية في اليمن بالعاصمة طهران، أن بلاده “تدعم أنصار الله في اليمن”، معربا “عن أمله في أن تقوم حركة أنصار الله في اليمن بالدور نفسه الذي يقوم به حزب الله في لبنان”.
بدوره، عدَّ اللواء قاسم سليماني، قائد فيلق “القدس” التابع للحرس الثوري في سبتمبر 2015، أنصار الله حركة وتيارا شعبيا واكبه كثير من أبناء الشعب اليمني. في حين رأي ، العميد حسين سلامي نائب القائد العام للحرس الثوري، في نوفمبر من العام نفسه، أنه “ببركة الثورة الإسلامية (الإيرانية)، وبثها روح الجهاد، يواصل أنصار الله الحرب في اليمن”.
ولم يتوقف دعم طهران للحوثي بالتصاريح إذ كشف تقرير سري لخبراء في الأمم المتحدة، رُفع إلى مجلس الأمن الدولي في مايو 2015، أن إيران تقدم أسلحة إلى الحوثيين في اليمن منذ عام 2009 على الأقل، وأن حادثة السفينة الإيرانية جيهان 1 التي ضبطتها الحكومة اليمنية في يناير 2013، وهي محملة بالأسلحة والمتفجرات في طريقها لجماعة الحوثي، لا تمثل إلا ما نجحت الحكومة في ضبطه.
وقد توافر للحوثيين مخزون لوجيستي كبير، بعد نجاحهم في هزيمة الجيش اليمني، والسيطرة على معداته، ومخازن أسلحته في مواقع عدة، ويبدو أن سيطرتهم على العاصمة صنعاء، ومطارها، وعديد من الموانئ على البحر الأحمر أتاحت للإيرانيين أن يقدموا لهم مزيدا من الدعم العسكري.
حزم سعودي
لكن مع تبني مجلس الأمن القرار رقم (2216)، في 14 أبريل 2015 الذي من بين بنوده فرض حظر على توريد الأسلحة للحوثيين، وفرض التحالف العربي حصارا بحريا علي اليمن، ومنع هبوط الطائرات في مطار صنعاء إلا بموافقته، انعدمت بشكل شبه تام قدرات طهران على تهريب الأسلحة للحوثيين، في وقت باتوا يعانون فيه نقص قدراتهم التسليحية، جراء تواصل المعارك مع قوات التحالف العربي والمقاومة الشعبية. ولعل سفينة الصيد الإيرانية التي ضبطتها قوات التحالف العربي في سبتمبر 2015، وهي محملة بالأسلحة والمتفجرات في طريقها إلى اليمن، كانت جزءا من محاولة إيران حل هذه الأزمة اللوجيستية لحلفائها.
وهكذا، فوفقا لما وثقته بعض المنظمات الحقوقية الدولية المستقلة، ومؤسسات أممية بشأن جرائم جماعة الحوثي التي عدتها انتهاكا لحقوق الإنسان والقانون الإنساني الدولي، وصنف بعضها كجرائم حرب تقوم على الطائفية، يصبح من الممكن حسبانها جماعة إرهابية، ولكن المجتمع الدولي يغض البصر عنها، أو عن جانبها الإرهابي، لأسباب سياسية تتعلق بالمصالح الغربية المستجدة مع إيران، التي تتوافر دلائل كافية على أنها ترعى تلك الجرائم.
يبقى أن هذه النتائج المخيبة للآمال على المستوى الدولي لم تمنع الحكومة الشرعية ومن خلفها التحالف العربي بقيادة السعودية من السعي حثيثا تجاه المفاوضات السياسية في الكويت حقنا لدماء اليمنيين وتمكينا للعمليات الإغاثية والإنسانية إلا أن الانقلابيين بقيادة الحوثي والمخلوع صالح يصرون على المماطلة وإطالة الوقت إمعانا في مواصلة انتهاكاتهم العسكرية والإنسانية. وهو ما يمكن للتحالف أن يضع له حدا إن عاجلا أو آجلا -وفقا لمراقبين- طالما بقي زمام التقدم والتأني في يد الشرعية، وبسلاح الحزم.
(الاقتصادية)