لا يبدو الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، عابئاً بكل المظاهرات الشعبية أو السجالات السياسية والإعلامية، المعترضة على سياساته المتسارعة والمتخذة شكل “الأوامر العسكرية” لا التنفيذية فحسب، كما توصف. فالرجل المعروف بحدة مزاجه يبدو معنياً بمواجهة انتقادات خصومه بالمضي قدماً في تنفيذ وعوده الانتخابية.
قرارات ترامب المثيرة للجدل، لم تتوقف عند حد إقالة مسؤولين سابقين في إدارة أوباما تباعاً (وزيرة العدل ومسؤول دائرة الهجرة بالوكالة) أو إصدار قرارات حظر دخول مواطني عدد من الدول التي يصنفها في مخيلته على أنها “مصدّرة للإرهاب”؛ بل تعدى ذلك، وفي غمرة الانشغال بتفاصيل قراراته، إلى السياسة الخارجية، وملف ما يسمى “مكافحة الإرهاب”.
اختار دونالد ترامب، اليمن، مدخلاً لسياسته المتناغمة مع توجهاته، والداعية إلى حماية الولايات المتحدة من “الإرهاب” كما يزعم؛ إذ أجاز ترامب، بحسب رويترز، نقلاً عن ضابط أمريكي، عملية الإنزال على مقر لـ”القاعدة” في مدينة البيضاء باليمن.
وكانت قوات أمريكية شنت غارات جوية أعقبتها عمليات إنزال مظلي، في منطقة “قيفة” بالمحافظة، مستهدفة منزل القيادي في تنظيم القاعدة، عبد الرؤوف الذهب، ما تسبب في مقتل 40 شخصاً، أغلبهم من التنظيم.
وأسفر الهجوم عن مقتل الذهب وشقيقه سلطان، وقيادي آخر في التنظيم يُدعى “سيف النمس الجوفي” وآخرين. وأشار سكان محليون إلى أن الإنزال الجوي سبقته غارات جوية، استهدفت عدداً من المواقع التي يُعتقد أن عناصر “القاعدة” يتحصنون فيها.
كما أعلن الجيش الأمريكي مقتل جندي وإصابة ثلاثة آخرين في الهجوم، وهو أول جندي أمريكي يلقى حتفه في عملية عسكرية خارج البلاد، خلال ولاية الرئيس دونالد ترامب.
عن الداعي لتنفيذ العملية الاستباقية ضد التنظيم، ذكرت القيادة المركزية الأمريكية أن “جنوداً أمريكيين مشاركين في الهجوم، تلقوا معلومات ترجح تخطيط المسلحين لعمليات إرهابية في المستقبل”، ما قد يعكس حجم الانسجام بين ترامب وقيادة الجيش الأمريكي، والعودة إلى مبدأ “الحرب الاستباقية” الذي دشنه الرئيس الأسبق جورج بوش الابن، بعد أن تخلت عنه واشنطن لصالح مبدأ “القيادة من الخلف” في عهد ولايتي أوباما.
دلالات الضربة
هجوم قوة من مشاة البحرية الأمريكية (المارينز) على بلدة في محافظة البيضاء وسط اليمن، يكشف عن تحول في قواعد المواجهة بين الولايات المتحدة و”تنظيم القاعدة في جزيرة العرب”، الذي يتخذ من اليمن معقلاً له.
لسنوات خلت، اكتفت واشنطن، لا سيما خلال السنوات الثماني من حكم الرئيس السابق باراك أوباما، بشن غارات بطائرات دون طيار، من آن إلى آخر؛ لتصفية من تقول إنهم قيادات من القاعدة في اليمن، لكنها فجأة نفذت عملية إنزال جوي لقوة من “المارينز” خاضت قتالاً في بلدة “قيفة” اليمنية.
وفق رواية تنظيم القاعدة، في بيانٍ الأحد، فإن أربع طائرات أباتشي أمريكية قصفت بـ”16 صاروخاً ثلاثة منازل في بلدة قيفة بمحافظة البيضاء، ما أسفر عن مقتل 30 شخصاً، بينهم نساء وأطفال.
التنظيم، الذي يناصب واشنطن العداء جراء سياستها في المنطقة، أضاف أنه أعقب ذلك إنزال جنود أمريكيين واندلاع اشتباكات استمرت ساعتين، متحدثاً عن سقوط جنود أمريكيين بين قتيل وجريح.
لكن وزارة الدفاع الأمريكية لم تعلن سوى مقتل جندي واحد، وإصابة ثلاثة آخرين بجروح، مقابل مقتل 14 مسلحاً من “القاعدة”، وفق الرواية الأمريكية.
أهداف هامشية
من بين قتلى العملية الأمريكية ثلاثة من مشايخ اليمن يوصفون بأنهم داعمون لتنظيم القاعدة؛ وهم: عبد الرؤوف الذهب، وسلطان الذهب، وسيف النمس، في حين لا يزال الشيخ عبد الإله الذهب مفقوداً.
لكن أياً من الأربعة لا يتمتع بثقل داخل “القاعدة” يدفع وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاغون) إلى تنفيذ هذه العملية النوعية، بعد سنوات من الغارات الجوية.
الصحفي اليمني المتخصص في شؤون “القاعدة”، عبد الرزاق الجمل، اعتبر، في حديث لـ”الأناضول”، أن “العملية أكبر بكثير من هدفها، إن كان هذا الهدف هو عبد الرؤوف وشقيقاه سلطان وعبد الإله”.
الجمل تابع أن “الولايات المتحدة قتلت، بواسطة الطائرات من دون طيار، كبار قادة (القاعدة) خلال السنوات الأخيرة، وليست بحاجة إلى عملية إنزال جوي لتصفية أشخاص محسوبين على التنظيم، وليسوا قيادات فيه”.
وأعرب الجمل عن اعتقاده أنه “لا أحد من قيادات القاعدة، غير (قاسم) الريمي (قائد تنظيم القاعدة في جزيرة العرب) أو إبراهيم عسيري (قيادي بارز في التنظيم)، يستدعي عملية إنزال أمريكية”.
ورجح أن إدارة الرئيس الجمهوري ترامب، وفي أيامها الأولى، “ربما أرادت أن تحقق انتصاراً نوعياً يتجاوز التصفية إلى الاعتقال، على أمل الحصول على كم هائل من المعلومات من قيادات في (القاعدة)”.
هذه العملية هي الرابعة من نوعها، فالعملية الأولى فشلت في قتل إبراهيم عسيري في محافظة شبوة، في حين حاولت العمليتان الثانية والثالثة إنقاذ الصحفي الأمريكي لوك سومر، الذي اختطفه تنظيم القاعدة في شبوة، لكنها أيضاً انتهت بالفشل ومقتل الصحفي الأمريكي.
منطقة آمنة
بالتوازي مع مسعى ترامب لتحقيق “إنجاز” عسكري في بداية ولايته، يبرز سعيه إلى إنشاء منطقة آمنة غير واضحة المعالم، حتى الآن، في اليمن.
بيان للبيت الأبيض كشف عن تفاصيل محادثة هاتفية بين العاهل السعودي الملك سلمان بن عبد العزيز والرئيس الأمريكي دونالد ترامب، وأنه تم الاتفاق خلالها، وبعد ساعات من الإعلان عن الغارة الأمريكية في البيضاء، على دعم إقامة مناطق آمنة بسوريا واليمن، وفقاً لما ذكرته وكالة رويترز.
وأضاف البيان: “طلب الرئيس (ذلك) ووافق الملك على دعم مناطق آمنة في سوريا واليمن، فضلاً عن دعم أفكار أخرى لمساعدة كثير من اللاجئين الذين شردتهم الصراعات المستمرة”.
وفي تعليق أولي على الاتصال، لم تذكر وكالة الأنباء السعودية إقامة مناطق آمنة. وقالت الوكالة إن الزعيمين أكدا “عمق ومتانة العلاقات الاستراتيجية بين البلدين”.
لكن الوكالة قالت في وقت لاحق: “وقد أبدى خادم الحرمين الشريفين تأييده ودعمه لإقامة مناطق آمنة في سوريا”، إلا أنها لم تذكر اليمن.
وقال مصدر سعودي رفيع المستوى لـ”رويترز”: إن “الزعيمين تحدثا لأكثر من ساعة عبر الهاتف واتفقا على تعزيز مكافحة الإرهاب والتعاون العسكري وزيادة التعاون الاقتصادي”.
في حين يبدو الرئيس الأمريكي مهووساً بتحقيق “إنجاز” عسكري يسجل له مع استهلال ولايته الرئاسية، وهو إذ يختار اليمن مدخلاً لذلك، ينسج خيوط الودّ مع المملكة العربية السعودية؛ لتعزيز العلاقات مع دول الخليج العربي، من جهة، والاستمرار في سياسة “مكافحة الإرهاب” من جهة أخرى، عبر العودة إلى الأسلوب المباشر في المواجهة مع العدو التقليدي “تنظيم القاعدة”، وفرض منطقة آمنة في مواجهة مليشيا الحوثي وقوات الرئيس المخلوع صالح.
(الخليج اونلاين)