منذ هجمات 11 أيلول (سبتمبر) الشهيرة، أصبحت السعودية بالنسبة إلى الإعلام الغربي موضوعاً للنقد، الصالح منه والطالح، وموضوعاً للتحامل والتشويه أيضاً. من الطبيعي أن يكون الإعلام الأميركي هو من يحمل شعلة هذا التيار. تأمل مثلاً حقيقة أن 15 من منفذي تلك الهجمات كانوا سعوديين والاستنتاجَ الذي تخرج به غالبية الكتابات الغربية بناء على هذه الحقيقة، حين تستخدمها أحياناً بشكل مباشر وأحياناً أخرى بشكل مضمر لا تخطئه عين كمؤشر على تورط السعودية حكومة وشعباً وثقافةً في ما قام به «القاعدة» في خريف 2001. وهذا حكم ثقافي جماعي مسبق على ثقافة وجماعة أخرى فيه الكثير من التحيز والتعصب الثقافي، بل والعنصري أحياناً. ومع أنه «حكم» ينتمي إلى الماضي وليس إلى الحاضر، إلا أنه يؤكد القاعدة التي تقول إن الحقائق لا تتكلم عن ذاتها من ذاتها، وإنما نحن من يجعلها تتكلم بطريقة معينة دون سواها، وضمن سياق دون غيره.
هذا عن الماضي القريب، أما عن الحاضر فهناك تراكم يتصاعد للموقف ذاته بناء على المعطيات المشوهة ذاتها. آخر مؤشرات ذلك ما حصل لخير الدين مخزومي (جاء إلى أميركا لاجئاً من العراق)، الذي تم إنزاله من الطائرة لأنه تحدث على الهاتف بالعربية قبل الإقلاع، وقال في نهاية حديثه للشخص الذي يتحدث معه كلمة «إن شاء الله» (انظر موقع «نيويورك تايمز» عدد أمس السبت).
في الحاضر أيضاً، وعلى مستوى صانع القرار السياسي، انظر كيف أصبح تنظيم «الدولة الإسلامية»، أو «داعش»، هو الهاجس الوحيد في الشرق الأوسط كله للسياسة الأميركية، ومعها دول أوروبا الغربية. بات «داعش» أخطر من ظاهرة الميليشيا، ومن الطائفية التي تتغذى عليها، ومن نظام الأسد، ومن إيران، ومن الدول الفاشلة في العراق وسورية واليمن… إلخ. لم يعد الغرب يرى إلا «داعش»، ولا يريد أن يسمع شيئاً إلا عن «داعش». ومع أن لا أحد يختلف حول ضرورة القضاء على هذا التنظيم المتوحش وأولويته، لكن السؤال المركزي الذي يتم تجاهله تماماً: ماذا بعد القضاء على «داعش»؟ ما هي الخطوة التالية لهذا الإنجاز إن قُدر له أن يتحقق؟ ماذا سنفعل أمام الميليشيات الأخرى التي تجوب المنطقة طولاً وعرضاً؟ بعض هذه الميليشيات، خصوصاً الشيعية منها، أصبح جزءاً من المؤسسة الأمنية والعسكرية في العراق وسورية ولبنان، من دون أن تتماهى مع الدولة في هذين البلدين. لا أحد يعرف الإجابة، أو حتى يلقي بالاً للتفكير فيها، لا في واشنطن ولا في أي من العواصم العربية أو الغربية، أو هكذا يبدو، ما يعني أن الحرب على «داعش» هي من دون استراتيجية واضحة. هل يمكن القضاء على «داعش» فعلاً بمثل هذا التصور المبتور؟
تجربة الحرب على «القاعدة» تؤكد عكس ذلك، فبعد حوالى ربع قرن على انطلاقته لا يزال «القاعدة» معنا، بل ظهرت معه عشرات، وربما مئات التنظيمات والميليشيات الأكثر توحشاً في كل أنحاء الشرق الأوسط وأفريقيا. هناك الآن حروب أهلية تعصف على الأقل بثلاث دول عربية، هي العراق وسورية واليمن، أطرافها الرئيسة هي هذه الميليشيات. واللافت أن هذه الدول لم يخرج منها «القاعدة» أصلاً. من بين أهم ما تشير إليه هذه النتيجة البائسة أن «الحرب على الإرهاب» فشلت فشلاً مدمراً. و «داعش» الذي يتم التركيز عليه حالياً خرج من رحم «القاعدة» الذي كانت «الحرب على الإرهاب» تروم القضاء عليه. بعبارة أخرى، بدلاً من القضاء عليه، انتهت هذه الحرب بنهجها وتداعياتها إلى تحويل «القاعدة» من تنظيم إلى ظاهرة إقليمية تنافس الدول، ويصل خطرها إلى قلب أوروبا نفسها. وعلى رغم ذلك، تصر واشنطن ومعها حلفاؤها الأوروبيون، على التمسك برؤيتها وبالنهج ذاته الذي انتهى إلى ما انتهى إليه.
هناك ثلاثة عوامل تفسر هذا الموقف: الأول والأهم أنه يتم تجاهل حقيقة أن الإرهاب بعد الغزو الأميركي للعراق يختلف جذرياً عن الإرهاب الذي كان يمثله «القاعدة» قبل ذلك. الطائفية حالياً، وعلى عكس ما كان عليه الأمر من قبل، هي المصدر الأساسي للإرهاب، ولا يمكن تفسيره والتعاطي معه إلا من هذا المنطلق. بهذا المعنى لا يمثل «داعش» إلا عرضاً لما هو أكبر وأخطر. يعترف الغرب بهذا، لكنه يتفادى مواجهته مباشرة تفادياً للكلفة السياسية التي يتطلبها ذلك. كيف؟ يعرف الغرب يقيناً، وأوباما تحديداً، أن الحرب الأهلية في العراق مثلاً هي حرب طائفية. ويعرف أوباماً يقيناً أيضاً أن إيران هي من يرعى الميليشيات الشيعية في هذه الحرب، وأنها هي من يوفر لها الغطاء السياسي. لكن إدارته تتفادى الحديث عن هذا الموضوع مباشرة. الأسوأ أنها تتعاون مع هذه الميليشيات بمرجعيتها الإيرانية في محاربة «داعش». وفي هذا مفارقة صارخة من ناحيتين. الأولى أنها تحارب ميليشيا (داعش) بالتعاون مع ميليشيات أخرى. وهو ما يعزز فكرة الميليشيا بدلاً من إضعافها، ليس فقط في العراق، بل خارجه أيضاً. الثانية، وهذه نتيجة للأولى، أنها بمآلاتها هذه للميليشيا، تساهم الإدارة الأميركية في إضعاف فكرة الدولة في العراق، بما يؤدي بها عملياً إلى استكمال ما بدأته إدارة بوش السابقة عندما اختارت تدمير الدولة العراقية بعد إسقاطها نظام صدام حسين. وهذا واضح الآن في أن هناك حرباً سياسية موازية تدور رحاها على أساس طائفي داخل مؤسسات «الدولة»، وأن العراق لم يعد بإمكانه نتيجة لذلك تأسيس جيش وطني، وبالتالي لا تمكنه محاربة «داعش» من دون الاستعانة بالميليشيات وبإيران. اللافت هنا أن إدارة أوباما اختارت التعايش مع هذا الواقع انطلاقاً من وهم أنه يساعد في إعادة بناء دولة وطنية جامعة تتسع لكل العراقيين. المفارقة الثالثة أن هذه الإدارة بانخراطها على هذا النحو في الأزمة العراقية تصطف عملياً مرة أخرى – بقصد أو غير قصد، لا فرق – إلى طرف ضد آخر في حرب أهلية طائفية.
العامل الثاني، أن الدول العربية، خصوصاً السعودية ومصر ودول الخليج، ومعها تركيا أيضاً، تبدو وكأنها بدورها تساير هذه السياسة الأميركية في العراق وسورية تفادياً للثمن السياسي الذي يمكن أن يترتب على معارضتها، خصوصاً بشكل علني. هل هذا ما يحصل فعلاً داخل الدوائر الدبلوماسية؟ أم أن الخلاف السعودي الأميركي، والتركي الأميركي يشي بما هو عكس ذلك؟ مهما يكن، فإن كون «داعش» بات الآن، بسبب الضغوط الأميركية، الرمز الوحيد للإرهاب، فرض على المنطقة واقعاً سياسياً ضاغطاً على الجميع. وهذا يؤشر إلى فشل إعلامي وسياسي عربي في كشف حقيقة أن «داعش» عرض لأزمة أخطر، وأن الاقتصار على التعامل مع العرض من دون جذوره وأسبابه يهدد بما هو أسوأ مما يبدو على السطح.
أخيراً نأتي إلى العامل الثالث المتمثل في دلالات السياسة الأميركية، والموقف العربي منها. فالسياسة الأميركية، وهي سياسة انكفاء في حقيقتها أكثر مما هي سياسة انخراط، تعكس تراجعاً في القوة والنفوذ الأميركيين، وهو ما يفسر هاجس خوف الإدارة من الانخراط. لكنها بمثل هذه السياسة الخرقاء تصطدم، ومعها الغرب، مع سنّة المنطقة بشكل مباشر واستفزازي، وهو ما يشكل مصدر دعم لـ «داعش» ولأي تنظيم قد يحل محله، كما حصل من قبل مع «القاعدة». وهذا أكثر وضوحاً على المسرح السوري. على الناحية الثانية تبدو المسايرة العربية لهذه السياسة محاولة لشراء الوقت تفادياً لمواجهة حال جمود سياسي سيطر على المنطقة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. ومن ثم فنحن أمام التقاء حال تراجع غربي مع جمود سياسي عربي كل منهما لأسبابه يخشى مواجهة واقع المنطقة وما تتطلبه هذه المواجهة من تنازلات وتضحيات. والمستفيد من ذلك حتى الآن هي القوى الطائفية المناهضة لمفهوم الدولة الوطنية ولعروبة المنطقة ولفكرة الحرية.
نقلا عن جريدة الحياة