عندما نذهب إلى السينما، فإنه مهم لنا أن نطالع الـ»تريلر»، أو العرض الدعائي للفيلم، مهم لنا أن نعرف اسم المخرج، لكي نكون على يقين من جودة العرض، فإذا ضمنا عالمية المخرج، فلا بد أننا سنضمن عالمية وجودة الإخراج، في الأحداث والحبكات والمشاهد، سنضمن كذلك نهاية غاية في الإثارة، التي ستكون سمة الفيلم الغالبة، أثناء العرض حتى لحظة الوصول إلى النهاية، التي تحتشد فيها كل الرموز والإيحاءات، واللقطات الثرية.
وعلى ذلك، فإن العقلية التي كانت وراء إنتاج «فيلم داعش» هي عقلية في غاية الذكاء والدهاء والخبث والمكر الفني والسياسي في آن.
«داعش بطل الموت»، الذي أدى مهمته بنجاح منقطع النظير، في تدمير المدن العربية في حلب وإدلب وحمص والموصل والفلوجة وديالى وأخيرا في الرقة، قبل أن ينتحر بتفجير نفسه في حشد كبير من الحضارة والتاريخ والفكر والفلسفة والمدن والناس والمعاني الإسلامية الثمينة .
تأملوا الصورة في العراق مثلاً:
كان الحراك السلمي للعرب السنة غرب العراق ضد حكومة نوري المالكي يوشك أن يؤتي ثماره في مناقشة المطالب المحقة، والاستجابة للكثير منها، وكانت وفود من القبائل من أشقائهم من العرب الشيعة جنوب العراق قد بدأت بالتوافد على ساحات الاعتصام في الأنبار، التي امتدت إلى خارجها، وكانت المطالب الحقوقية متصدرة والدعوات الطائفية خافتة، وحتى بغداد كانت قد بدأت تتحرك ضد حكومة المالكي، وبدأ التجاوب بالتظاهر المدني العابر للطائفية في مدن جنوب العراق ضد المالكي وسياساته. فما الذي حدث؟
فجأة، وكما يخرج «الحاوي» ثعابينه من الجراب، أخرج لنا المخرج العالمي «فيلم داعش».
في سوريا كان النظام السوري يترنح تحت هدير المتظاهرين، الذين التحموا تحت شعارات سياسية وحقوقية غير طائفية، وحتى بعد عسكرة الثورة السورية كان الثوار يقتربون من قصر الأسد في دمشق، وفجأة وكما يخرج «مُهرِّج» ماهر الأرنب من قبعته أبدع لنا عقل جهنمي شديد الذكاء فكرة «الدولة الإسلامية».
يخرج أبوبكر البغدادي خطيباً في جامع النوري في مدينة الموصل، وهنا دعونا نتأمل تفاصيل «البطل السينمائي الجديد»، حيث يبالغ المخرج في تنسيق ألوان ملابسه، ويحرص على وضع العمامة ولونها، لحية البغدادي طويلة، لغة النبي والخلفاء الراشدين التي أجادها البغدادي كانت مدروسة بعناية، وقفة البغدادي التي حاكت وقفة عمر بن الخطاب- طويلاً فارعاً- هذه الوقفة كانت أيضاً موحية، ناهيك عن مضامين الخطبة العصماء التي ألقاها «أمير المؤمنين»، الذي جاء اختيار لقبه ماكراً إلى حد كبير، موجعاً ورامزاً، ذكياً وخبيثاً في آن، وناهيك عن العبارة الرامزة التي قالها «وُلِّيتُ عليكم ولست بخيركم، فإن رأيتموني على حق فأعينوني، وإن رأيتموني على باطل فانصحوني وسددوني»»، التي تحضر حال سماعها شخصيات إسلامية مثل أبي بكر وعمر، بالإضافة إلى تاريخ من البيان العربي.
أراد المخرج في هذه اللقطة أن يستحضر صورة العربي المسلم، ليعيد إنتاج مضامين الشكل القديم، مع الاحتفاظ به من أجل ربط المحتوى الإرهابي الجديد بالشكل القديم الذي يستحضر النبي والخلفاء والإسلام والقرآن.
أرادت اللقطة أن تجعلك – أنت الذي تعيش اليوم في نيويورك أو لندن أو موسكو أو بكين – عندما ترى ثوباً قصيراً ولحية طويلة، عندما ترى عمامة وجُبَّة، وعندما تسمع كلمة «الله أكبر»، حتى لو كانت في شعيرة روحية كالصلاة، أرادت اللقطة أن تجعلك تربط ما ترى بأفعال الذبح والقتل والتفجير والاعتداء على المدنيين الآمنين، وأن يصبح لديك ربط «بافلوفي» بين الصورة الإرهابية ومضامين الإسلام. هذه باختصار هي رسالة «فيلم داعش» الذي حقه أن يحصد كل جوائز «الأوسكار والغولدن غلوب والبافتا» وجوائز أخرى كأجود فيلم سينمائي تم عرضه في القرن الواحد والعشرين، واستغرق إنتاجه عقوداً قبل ذلك.
ولكي ينسى العرب في سوريا والعراق حجم الكارثة التي انتهوا إليها لا بأس أن يعرج المخرج قليلاً على أزمات أخرى لينشغل العرب، وينشغل الرأي العام عالمياً بها، فكانت الأزمة الخليجية التي ارتدت معها موجة الصراع إلى الداخل العربي أو الداخل السني، ثم تلتها بعد شهور أزمة كردستان العراق، لتعيد تعريف الصراع في المنطقة في شكله القومي العربي – الكردي، كل ذلك ألهى العرب والعالم عن حقيقة جريمة العصر في محو مدن عربية من الخريطة، وفِي تنفيذ أبشع عمليات التطهير الطائفي التي مارستها مليشيات إيرانية يقودها قاسم سليماني ضد السنة في حواضرهم التاريخية في الموصل وحمص وحلب ودمشق وغيرها.
لم تكن لقطة الآلات الحادة والسواطير- التي كان يمسك بها جزار بريطاني لذبح ضحاياه في الفيلم- بريئة، الصفوف الطويلة من الضحايا التي كانت تُقيَّد وتُربَط في سلاسل متوالية، النار التي تبدأ في طرف خيط البنزين، وتنطلق في اتجاه الأجساد الحية التي تنتظرها، صراخ الضحايا لحظة الحريق، الصوت الفجائعي الخارج من الحنجرة المذبوحة، الرؤوس المحمولة على السواطير أو المعلقة من فروة الرأس، حتى دين الضحية ومذهبه، بالإضافة إلى دين بطل الموت ومذهبه، كل تلك كانت حركات تصويرية مدروسة بعناية، أشرفت عليها خبرات فنية بالغة الإبداع، وبأجهزة تصوير سينمائي عالية الدقة، لكي يتم إخراج الفيلم وفق معايير هوليوود لجذب الجمهور إلى بشاعة العمل الذي يمارسه «البدائيون المسلمون، أعداء الحضارة الإنسانية»، قبل أن تنتصر عليهم قوى الخير المتمثّلة في الحرس الثوري الإيراني وصواريخ «كاليبر» الروسية، و»أف 16» الأمريكية، ناهيك عن بقية الأبطال الذين شربوا نخب النصر على أنقاض الموصل والرقة، مع نهاية هذا الفيلم الذي استغرق الإعداد له وعرضه عقوداً طويلة من الزمن، في طريق التهيئة للحظة الذروة في الفيلم، الذي ظهر فيه الأبطال الإيرانيون والروس والأمريكيون وهم يدوسون على الراية السوداء التي كتبت عليها «كلمة التوحيد» الإسلامية التي مثلت عقيدة المسلمين قروناً طويلة، قبل أن يقتضي «فيلم داعش» أن تكتب بلون وخط معينين على قماشة بلون معين، وقبل أن يكتب لها السقوط في الفيلم، الذي أراد أن يربط بين شعار «داعش» وعقيدة المسلمين، ليتم تصوير آخر اللقطات بمشهد غير بريء يربط فيه المخرج بين المسلمين و»داعش»، أو بين الإسلام والإرهاب، وليخرج الأبطال منتصرين مع نهاية الفيلم.
وكبطل أمريكي يخرج من بين الركام مبتسماً رغم كونه مضرجاً بدمه، وكأبطال هوليوود يتمشى الغازي الأجنبي الإيراني والأمريكي، الروسي والغربي، كلهم يتمشون اليوم على أنقاض الحواضر العربية التي شكلت نَسَغ الحياة الثقافية والاقتصادية والفكرية في المشرق العربي على مدى قرون من الزمن.
ومع اقتراب الفيلم من نهايته يتحول إلى ما يشبه الأداء المسرحي يسدل فيه الستار على جامع النوري- الذي خطب فيه البغدادي – وهو يتهاوى على يد رجال الخليفة، ويصرخ فيه من زاوية المسرح بطل اسمه قاسم سليماني «هذا مصير أعداء إيران»، في إشارة إلى العرب، أما البطل الأمريكي فيخرج علبة سيجار فاخرة ويشعل سيجاره من شظية لا تزال تشتعل في المشهد، قبل أن يقبل عشيقته على أنقاض الرقة، وتحت هدير السوخوي الروسية على الساحل السوري.
وفي زاوية قصية من المشهد تسقط «سينمائياً» لوحة كتب عليها «لا إله إلا الله، محمد رسول الله»، يبتسم الأمريكي، يبتهج الروسي، ويقهقه قاسم سليماني، وبينما يتجه المشهد لنهايته يعلن صوت غريب «نهاية التاريخ».
ملحوظة: فيما الجمهور يخرج من «صالة العرض»، كان أحد الدراويش يتلو على الخارجين: «يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم، والله متم نوره ولو كره الكافرون».
وإلى جواره فيلسوف في جبة عربية يقول : ينتهي الفيلم لكن التاريخ لا ينتهي.
نهاية الفيلم…بداية التاريخ
No more posts
No more posts